السابقون الأولون.. الهجرة دروس وعبر

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

إذا كان الله تعالى قد قال لنبيه "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)"المائدة.، فإن هذا التطمين والتثبيت الإلهي لم يكن ليمنع عنه أذى الكافرين ، فالعصمة كانت من القتل لكنها لم تكن لتمنعه من الأذى، ولا العنت ولا بعد الشقة وطول السفر وقلة الزاد ووحشة الطريق، فيما لاقى من قومه قبل الهجرة وفي أثناءها..

 وقد ضيق عليه ما ضيق ليس في أمر الدعوة وحدها بل في أمر الحياة نفسها حتى كادوا أن يزهقوها إن استطاعوا إلا إن عصمة الله قد سبقت ما يدبرون ويمكرون، فحالت بينهم وبينه "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)"الأنفال

أما هذه الكوكبة النورانية التي أحاطت بنبيها إحاطة الكواكب بالشمس لا تنفك عن فلكها إلا (بحسبان)، والسوار بالمعصم .. هذي التي لم ترزق هذا التطمين القرآني من العصمة من القتل ، ولا تنزل الوحي بين جنوبهم ولا رأوا من الآيات في بادئ الأمر ما يثبت فؤادهم، بل لما كانوا يستنصرون من النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان يقول لهم كما في حديث خباب "أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بِبُرْدَةٍ لَهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ، أَلَا تَسْتَنْصِرُ، فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ غَضْبَانًا، ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ كَانَ مِنْ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَتُحْفَرُ لَهُ الْحُفْرَةُ، ثُمَّ يُوضَعُ فِيهَا، ثُمَّ يُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ يُمَشَّطُ بِأَمْشَاطٍ مِنَ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ، فَمَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ» مسند بن أبي شيبة ومسند أحمد.

إنما تركوا لإيمانهم هذا الذي فاق رسوخ الجبال وهديل السيول وهزيم الرعود، فلم يرده عن صراطه راد مهما كان أذاه، ولا صرفهم عنه صارف حتى وإن أزهقت دونه الأرواح وثكلت الأزواج ويتم الأولاد ..أي صبر هذا الذي تحمله هؤلاء الرجال والنساء قبل الهجرة وحين الهجرة، صبر تكاد السموات يتفطرن منه  وتنشق الأرض وتخر منه الجبال هدا، كما قال أبوالعلاء:

يهم الليالي بعض ما أنا مضمر   ويثقل رضوى دون ما أنا حامل

فاستحقوا أن يكتب لهم هذا الذكر العلي في الأرض وفي السماء إلى يوم يبعثون، أن أخرجوا من ديارهم وأموالهم وأبناءهم : " لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) الحشر ,, "وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(100)"التوبة ، ثم ما كان ذلك ليردهم عن دينهم .. يخرج صهيب من ماله كله وقد أفنى عمره في جمعه ويراوده عنه الجبابرة ليخلون بينه وبين الهجرة فيفعل عن طيب نفس، ويصل خبره من السماء إلى الأرض قبل أن يصل المدينة ، ويرفع عمله هذا ذكرا بين الملأ الأعلى "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)"البقرة، ويترك أبو سلمة زوجه وابنه فلذة كبده لا له يد تبطش ولا سن يقطع ابتغاء مرضات الله وفرارا بدينه.. ويركب مهاجروا الحبشة عباب البحر قاصدين ملكا لا يظلم أحد عنده ، فتخرج قريش في إثرهم لتردهم عن دينهم وإلى مكابدة حرب لا طاقة لهم بها، فيحول الله قلب هذا الملك إليهم فينصرهم ويمنعهم بجواره ..

ويعذب آل ياسر حتى لا يجد النبي صلى الله عليه وسلم جزاء لما يلاقون من العذاب وما يجرعون من الصبر إلا أن يبشرهم بعد صبرهم فيقول"صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة "، ويتحدى بلال رضي الله عنه صناديد التعذيب وحر مكة وصلادة الصخر، فيلين الصخر ويرق له من شدة ما يلقى ولا تلين صخرة إيمانه ، ويكون هذا السر بينه وبين الأحدية التي تمده فلا يجد العذاب ولا الصخر ولا قيظ مكة الشديد ، لا يجد إلى نفسه سبيلا إلا ولسان حاله يقول "اقض ما أنت قاض ".

لم يعول هؤلاء البشريون في سمتهم، الملائكيون في إيمانهم لم يعولوا على آيات كونية تتراءى لهم رؤيا العين ليل نهار، ولا على وعد قريب بالنصر والانتقام في غضون أيام أو شهور، ولم يؤذن لهم بقتال للدفع عن نفوسهم وأموالهم، ولم يرزقوا عصمة نبوية تمنع عن قلوبهم الزيغ أو الجزع ، إنما عولوا فقط على إيمانهم الذي فاق رسوخ الجبال، ثم على وعد الله لهم بالنصر المبين وإن تأخر فإن أجل الله قريب ..

كيف كان لهؤلاء الزمرة الحديثي عهد بالإيمان ، ربيبوا البيئة العربية الصحراوية الشاقة التي لا تعرف الصبر على الضيم ولا القيام على الجور، وقد كان حالهم قبل الإسلام :

ونشرب إن وردنا الماء صفوا      ويشرب غيرنا كدرا وطينا

إذا بلغ الرضيع لنا فطاما         تخر له الجبابر ساجدينا

وأخر:

وأسيافنا في غرب ومشرق      بها من قراع الدارعين فلول

إذا مات منا سيد قام سيد     قؤول لما قال الكرام فعول

كيف بلغت هذي النفوس هذا المبلغ من الصبر، وجرعت مرارة الظلم والضيم ، واثقة بوعد الله ربها على أمل أن يأتي نصر الله فيجعل من بعد العسر يسرا "وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)"النور.

 فيذكر على إثرهم وما لاقوا ذكر هؤلاء السحرة الذين ما إن مست نفوسهم روح الإيمان حتى ألقوا ساجدين كأنما اللطف الإلهي أخذ بعنان قلوبهم حتى أكبت أجسادهم على الأرض ساجدة موقنه، ليس هذا فقط إنما كان حالها مع الوعود والعذاب والتصليب والتقطيع "اقض ما أنت قاض" ..

وكأنما : دونك هي الأجساد فاقض ما تشاء فيها ، أما القلوب فقد تعلقت وجدا وحبا بالذي فطرها ولن ترجع إلى ما كانت عليه حتى تلقى ربها، ولا عزاء "إنما تقضي هذه الحياة الدينا" .

ليست الهجرة كما نستعيدها كل عام حدث يلخص خروج النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه من مكة يطاردهم عتاة الكفر والبغي من أهلهم ، إنما كانت استجماعا لتجربة امتدت ثلاثة عشرعاما من الصبر المرير ، وشدة البأس والعنت والظلم ، حتى من الله عليهم بهذا الحدث الذي بدل الدين من الصعف إلى القوة ، ومن الهزيمة إلى النصر، ومن الشرذمة إلى السيادة والدولة والتمكين..

وهاهي درس لنا: أن التمكين سنة كونية تستلهم الأسباب التي تأخذنا إليها ، وأن لي عنان النفوس شطر ربها ودينه لن يكون إلا بداية على طريق التمكين وإن حف بالمكاره والبذل والصعاب، لكن "إلا إن نصر الله قريب" لمن دعاه.

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك