مدرين المكتومية
منذ أكثر من 3 أعوام والمملكة المتحدة تعيش في دوامة ما بات يعرف بـ"البريكست" وهو المصطلح الذي أطلق على عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بعدما كانت واحدة من أبرز أعضائه، وأحد أقوى الاقتصادات الأوروبية.
بداية البريكست كانت عقب استفتاء شعبي دعت إليه تيارات يمينية متشددة، وهي تيارات شعبوية تؤجج المشاعر تجاه الآخر وترفض التعددية وتدعو إلى الانغلاق على الذات أكثر مما ينبغي، وهذا أمر لا يتماشى مطلقاً مع نظام العولمة الذي تأسس عقب الحرب العالمية الثانية وانفتاح العالم على بعضه البعض، والاستفادة من الثورة التكنولوجية التي جعلت العالم قرية صغيرة. ورغم أن دول الاتحاد الأوروبي حققت نجاحات لا حصر لها في ظل وحدتها هذه، فظهرت أول عملة أوروبية موحدة "اليورو"، وظهرت القوانين الأوروبية الموحدة، والسوق الأوروبية المشتركة، والبرلمان الأوروبي، والمحكمة الأوروبية، وغيرها من المؤسسات والكيانات الأوروبية التي تعكس هوية هذه القارة، وتسعى إلى توحيدها، رغم ما بها من اختلافات جوهرية من حيث اللغة أو الدين أو حتى الأفكار الفلسفية، وأيضًا أنظمة الحكم، بين ملكية ورئاسية وبرلمانية.
لكن السؤال الذي قد يطرحه البعض، لماذا تلجأ تيارات سياسية يمينية إلى طرح فكرة الخروج من الاتحاد الأوروبي بالأساس؟ والإجابة هي أنَّ هذه التيارات تولدت لديها نزعات انفصالية، على غرار ما حدث مع إقليم برشلونة الإسباني قبل سنوات. وهذه النزعات الانفصالية تبرر موقفها بأنَّها تريد مزيدا من المشاعر الوطنية ومنع المهاجرين من العمل على أراضيها، بحجج شعبوية لا تتماشى مع روح عصر العولمة الذي نعيشه، وكذلك اعتقادا منهم بأنَّ الانفصال عن الاتحاد الأوروبي سيوفر للبريطانيين فرصاً وظيفية أكبر بعدما يتم تسريح الأوروبيين العاملين في بريطانيا، ولندن على وجه الخصوص والتي تستضيف آلاف الأوروبيين.
بريطانيا الآن وبعد سنوات من التخبط والضبابية- التي لا تزال قائمة- تعاني الأمرين، فهي من جانب تريد أن تطبق نتائج الاستفتاء والتي يُريد الاتحاد الأوروبي أيضا تنفيذها، وبين إدراكها المتأخر أنّ هذه الخطوة تمثل وبالاً وكارثة حقيقية على بريطانيا، اقتصاديا وسياسيا. الحكومة في "10 داونينج ستريت" تتقلب على الجمر، سواء خلال فترة تيريزا ماي أو أثناء حكم رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون، وقلبهما أيضًا خلال فترة رئاسة ديفيد كاميرون وكلهم ينتمون إلى حزب المُحافظين.
لكن الأزمة الحقيقية التي سيتسبب فيها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تتمثل في ما سيُواجهه هذا الكيان الاتحادي من عقبات تقدر تكلفتها الاقتصادية بمليارات اليوروهات، والتي سيتحملها المواطن البريطاني والأوروبي بشكل عام، ففضلاً عن هروب المستثمرين من بريطانيا التي كانت حتى وقت قريب أحد أهم مراكز المال والأعمال في العالم، ستواجه بريطانيا خطر الركود الاقتصادي، مع بدء غلق الحدود مع الدول الأوروبية واحتمالية ارتفاع أسعار السلع، ما يعني زيادة التضخم، إلى جانب خطر آخر كبير وهو زيادة معدلات البطالة في المملكة المتحدة.
وثمَّة خطر سياسي آخر فيما يتعلق بإيرلندا الشمالية، وعلاقتها بالاتحاد الجمركي الأوروبي، فإذا ما تم الاتفاق على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ستقف إيرلندا الشمالية عقبة أمام إتمام هكذا اتفاق، في ظل ما تتمتع به هذه "المقاطعة" البريطانية- إن صح التعبير- من حكم شبه ذاتي، وتجادل وجهات النظر السياسية في هذا السياق بأن إيرلندا غير ملزمة باتفاق الخروج، وهذا يعني بالنسبة للاتحاد الأوروبي خرقاً لأي اتفاق محتمل لخروج بريطانيا.
إنَّ مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تثير العديد من المفارقات، فالمملكة المتحدة التي كانت ذات يوم "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" باتت الآن في مهب رياح التراجع على المستويات كافة، إذ إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيضعف من شوكة لندن السياسية في صناعة القرار العالمي، كما إن صوتها داخل منظومة الاتحاد الأوروبي سيتضاءل إلى الصفر، نتيجة لعدم وجود أي مبرر قانوني أو دستوري للتدخل بعد ذلك في أي قرار أوروبي!
وخلال الأيام الماضية تابعنا ما يقوم به بوريس جونسون من إجراءات تعهد من خلالها بإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قبل انقضاء الموعد في 31 أكتوبر المقبل، وأولى وأعنف هذه الإجراءات تمثلت في تعليق عمل البرلمان البريطاني، لضمان منعه من القيام بأي خطوة تشريعية تعرقل جهود "البريكست"، سواء باتفاق أو عدم اتفاق، لكن هل سينجح جونسون فيما يُخطط له أم أن المفاجآت ستتوالى من "10 داوننيج ستريت" مقر رئاسة الوزراء في بريطانيا؟!