حساء الحجر

أحمد الرحبي

تعدُّ الطبقة الوُسطى هي دائمًا رُمانة الميزان في أي مجتمع؛ فهي الطبقة الاجتماعية التي تكتنز الثراء الفكري والاجتماعي من أجل الطموح الدائم في تجديد المشروع الوطني، كما أنَّ هذه الطبقة هي بمثابة الفاصل أو السلم، الذي يقطعُه بعض أفراد المجتمع، إمَّا صعودا إلى الغنى، وإمَّا نُزولا إلى الفقر، بسلاسة قدرية إذا جازت العبارة، لا تولِّد حقدا ولا غلا، ولتوضيح مهمة هذه الطبقة في المجتمع نسوق هنا هذه الحكاية وهي عن مسافر جائع يصل إلى قرية صغيرة جائعا ومتعبا، لكنه يجد سكانها عازفين عن فكرة مشاركة الطعام ووفادة الضيف، فطلب منهم طلبا غريبا، قال لهم: أنا غريب عن القرية، وأرغب في إعداد حساء بالحجارة، فهل تشاركونني الطعام؟

وبعد أن طلب منهم قِدراً مليئاً بالماء قام بوضع حجراً في داخله، ووضعه على النار، ثم بدأ في تذوق ماء القِدر مُدعياً أنه أصبح حساءً لذيذاً، لكنه سيكون أشهى إذا ما أُضيفت إليه بعض الأعشاب، أو حبة بطاطس أو قطعة لحم، وشيئاً فشيئاً، بدأ الجميع بتقديم أطعمة مختلفة لإضافتها إلى القِدر، حتى يكشف المسافر الذكي أنَّ الحساء الشهي جاهز، ويزيل منه الحجر، ليتناول الجميع الحساء الحقيقي بعد اكتمال مكوناته.

وإذا كان المجتمع في بعض المراحل الصعبة التي يمر بها، يجد نفسه مضطرا لتذوق حساء الحجر، فإن تحضير هذا الحساء، يكون دائما هو من مهمة الطبقة الوسطى الأزلية، لكن تهلهل هذه الطبقة وتآكلها، قد يعطل قدرتها عن القيام بهذه المهمة، وذلك بسبب الفقر الذي لم يعد يلتزم بحيزه الطبقي، وإنما فاض ليغرق بالعوز والحاجة حيزا سكانيا واسعا في المجتمع، وذلك أنَّ الغنى أصبح نتاجًا فئويًّا، وليس نتاجَ طبقة اجتماعية كما هو مُعتاد؛ مما يُؤدي هذا التآكل لحرمان الوطن من منجم طاقاته الذي يتمثل في الطبقة الوسطى في المجتمع.

ومن المُؤكَّد أنه لا يعتبر الفقر والفقراء بحد ذاتهم مشكلة مثلما لا يعتبر الغنى والأغنياء أيضا بحد ذاتهم مشكلة في المجتمع؛ فليس الفقر بالشيء المعيب، ولا الغنى بالشيء الذي يخلق عقدة الذنب التي تستوجب الاعتذار؛ إذن أين المشكلة؟

المشكلة الحقيقية في نظري، عندما يُوجد بضعة أغنياء في المجتمع يعيشون على حساب كثرة كاثرة من السكان ويستغلون الظروف لصالحهم؛ فيؤدي هذا الاستغلال لا محالة إلى مضاعفة عدد الفقراء في المجتمع؛ فتكون النتيجة أنَّه لا يكُون هناك تناغم ولا لحمة حقيقية ما بين مكونات المجتمع بأغنيائهم وفقرائهم؛ فالأغنياء أصبحت لهم مهمة في ظل هذا الاستغلال للظروف، وهي هذه المهمة: مُضاعفة عدد الفقراء في المجتمع وتوسيع الفجوة بينهم وما بين بقية أفراد المجتمع كنوع من التأصيل والفرض لامتيازاتهم على حساب الجميع في المجتمع، لكن مهمة الفقراء في هذه الحالة، ومن هم في أسفل الدرك من مرتبة الأغنياء في المجتمع، هي التذمر والحقد على القلة القليلة من الأغنياء الذين أصبحوا يتربعون على قمة المجتمع ويمتطون ظهره من أجل الوصول لأغراضهم وغاياتهم، وهي مهمة خطيرة، فسرعان ما يفلت التذمر والحقد من عقاله، فينقلب إلى عداء مكشوف ممارس بطريقة واضحة وبشكل ملموس، عداء هو نواة لخلق ثورة حقيقية لتغيير الواقع مهما تطلب الأمر ومهما كانت النتائج؛ فالفقر والفوارق الاجتماعية الحادة إذا ما تعمَّقت في جسد المجتمع وانتشر تأثيرها في مفاصل جهازه العصبي الحساس، تكون مطيحة بمزاجه (المجتمع) ناحية اليأس والقنوط، بعد أن يفقد كل أمل في التغيير، فتكون هذه الفوارق الاجتماعية الحادة نتائجها وخيمة وكارثية على المجتمع.