هذا العصر وثقافته!

عبدالله العليان

عندما التقيتُ شيخ الفلاسفة المعاصرين العرب د. زكي نجيب محمود، في شقته بشارع أنس بن ملك، والتي تقع على كوبري جامعة القاهرة 1981، وجدت الرجل -عليه رحمة الله- بعد عودته من الكويت، بعدما قضى عدة سنوات مُعَارًا كأستاذ للفلسفة في جامعة الكويت، مُركزاً على قضية الفكر والثقافة والتراث العربي عموماً، إذ كان مهتمًّا بالفكر والفلسفة الغربية في المراحل الأولى من سيرته الفلسفية والفكرية، وهي مسألة معروفة عند الكثير من المفكرين العرب، خصوصاً في مصر الذين انفتحوا على الغرب، في الوقت الذي كانت الأمة تعاني فيه تخلفاً واستعماراً ثقافيًّا وفكريًّا.

وقد أشرتُ إلى لقائي معه الذي أعترف فيه بالخطأ الذي جعله يهجر ثقافة الذات، ويتجه إلى ثقافة الآخر؛ لذلك جاءت مؤلفاته الكثيرة، أولها: كتاب "ثقافتنا في مواجهة العصر"، وتبعها بالكتب التالية: "مجتمع جديد أو الكارثة"، و"تجديد الفكر العربي"، و"هذا العصر وثقافته"، و"أفكار ومواقف"...وغيرها.

ومن الكتب التي ناقشتْ مسألة الإيمان وحيوية التفاعل مع العصر ما أشار إليه بعنوان "ليس إيمان الدراويش"، يقول في هذا الصدد: "الإيمان بمعناه الصحيح حركة لا سكون، فالإيمان بالله عز وجل يتضمن بالضرورة إيماناً، بصفاته -تعالى- قيم يُمكن أن تكون أمام معايير للسلوك؛ فإذا آمنت بالله العلي القدير المريد السميع...إلخ، وجب أن يكون ذلك في الوقت نفسه إيمانا بضرورة العلم والقدرة والإرادة والإلمام بحقائق الأمور عن طريق السمع والبصر (راجع في ذلك شرح الإمام الغزالي للأسماء الحسنى)، وبهذا -كما يقول د. زكي نجيب محمود- يكون إيمانك دفعة دينامية نشيطة ساعة، وإلا كيف نؤمن بضرورة أن تكون قادراً دون أن تتحرك بالفعل الذي يثبت قدرك؟ أو كيف نؤمن بضرورة الإرادة الماضية دون أن يكون لك الهدف الذي تمضي بإرادتك إلى تحقيقه".

ويفلسف دكتور زكي نجيب مسألة الإيمان وربطها بحركة المبادئ والأهداف المبتغاة، بطريقة منطقية بما يطرح المسألة بحسابات تقريب الفكرة وتعزيز الإرادة فيقول: "الإيمان لا يكون بأمر واقع: فأنت لا تشير إلى رغيف الخبز قائلاً: إنني (أومن) بأن هذا رغيف خبز، بل تقول إنه رغيف خبز لأني أراه بالبصر، وليس ما تراه العين أو تسمعه الأذن موضوع (الإيمان)، بل هو موضوع إدراك مباشر بالحواس. أما الإيمان بمعناه المطلوب، فهو ينصب على "المبدأ" و"الهدف"، ونحن لا نرى بالعين ولا نسمع بالأذن ولا نلمس بالأصابع "مبادئ" ولا "أهدافًا"، وإنما نتخذها اتخاذاً عن إيمان بها لنجعل من المبادئ بدايات للحركة ومن الأهداف نهايات لها".

لذلك؛ وبحسب د. زكي نجيب محمود، فلا بد أن تكون هناك -كما يقال- نسبة وتناسب بين القول والعمل، وبين الإيمان والعلم، حتى تترسخ القيم الإيمانية بحركة فاعلة لا تعرف السكون السلبي، في هذه الحياة، ومن هنا فإن هذا الدين جاء من أجل عمران الأرض، وهذه الغاية لابد لها من عمل وجهد وهدف وغاية، حتى يلتقي الإيمان والعمل، والإيمان والعلم، فـ"لا يكفي لترسيخ ركيزتي "العلم والإيمان" في نفوس الناس، أن نتناول أمامهم بعض ظواهر الكون، فنشرح لهم رأي العلم في حدوثها، ثم نختم لهم القصة بخاتمة تقول: أن ذلك كله من تدبير الله، لا يكفي أن نضيف للناس هذه الإضافة إلى شروحنا العلمية، لنضمن أن يجتمع في صدورهم العلم والإيمان، لأنَّ هذه الإضافة لا تبعث أحدًا على حركة، ولا ترسم لأحد طريقة سير".

فالبعض ينظر للإيمان نظرة عابرة، أو حتى ساذجة؛ فهؤلاء لا يعطون هذا الأمر تلك الرؤية العميقة، ولا يُقارنون الكثير من الآيات في القرآن الكريم، والتي تحث على العمل، والنظر، والاستكشاف، في هذا الكون الفسيح، وربط هذا كله بقضية عمران هذا الكون الذي أشار إليه الكتاب الحكيم، وهذه مسألة تحتاج إلى مراجعة لفهم مراد الله سبحانه تعالى من هذا الدين ومن أتباعه "وليذكر الذين يحسبون أن الإيمان معناه الأشباح تظهر وتختفي، أو أن معناه هو ألا تسير الأمور مقدورة بأسبابها، ليذكر هؤلاء أن بناة الإسلام إنما أقاموه على إيمان بالمبادئ والأهداف، ولم يُقيموه على قصص تُروى لينعس بها الصاحي، وليزداد بها الناعس استغراقًا في نعاسه". وهذه بلا شك من المسائل التي تتطلب فتح الآفاق الكبيرة لفكرة الإيمان والمبادئ التي تليها، ولا يمكن أن قد قامت الحضارة العربية/الإسلامية في القرون الأولى لظهور الإسلام، على السكون، وعلى النظرة الضيقة للإيمان، دون العمل لتحقيق أهداف هذا الدين القويم، صحيح هناك فروقات عند الناس وتعدد في الأفكار والرؤى، وهذه قضية إنسانية، وجبلّة بشرية.

لكنْ -وكما يرى د. زكي نجيب- أن "للإيمان معنى عند القوي القادر، يختلف عن الضعيف العاجز، معناه عند القوي أن يكون له مبدأ يرتكز عليه، ثم هدف يعمل على بلوغه بهدي من ذلك المبدأ، وهو فيما بين المبدأ والهدف يحتكم إلى العلم وحده ليرسم له الطريق خطوة خطوة، وأما معناه عند الضعيف فهو التمني بألا تجري الحوادث وفق أسبابها، لعل مشكلاته أن تنحل من حيث لا يدري". والأمر الذي يراه زكي نجيب من ربط الإيمان بالعمل والحركة النشطة هو أن تتجلى مسألة المبدأ عند رسوخ الإيمان في قلب المؤمن، وكيف تكون دافعة للإنسان لتحقيق مبادئه على أرض الواقع، ويعطي د. زكي نجيب مقارنة في هذا الأمر: "لأضيف إليه وجود العدو على أرضنا، فأقول: إن علمك برغيف الخبز، وعلمك بوجود العدو على أرضك، مرهونان بالبصر والسمع؛ لذلك فلا هذا من قبيل (الإيمان) ولا ذاك، ولكن قل: إن إخراج العدو من أرضي هو (أهم) عندي من رغيف الخبز، تكن قد ارتكزت إلى "إيمان" حين اتخذت لنفسك قيمة، أو المعيار الذي تفاضل به بين الأشياء لتقدم أحدها على سواها.. ذلك هو ما يَجعل الإيمان قوة حية دافعة، لا مجرد صوت أجوف تنفرج عنه الشفاه".