اليمن.. الصلح خير

حاتم الطائي

 

 

الأزمة اليمنية تزداد تعقيدًا في ظل تعدد الخصوم وتمزق اللحمة الوطنية

الدبلوماسية العمانية تؤيد استقرار اليمن ووحدته وإنهاء جميع الصراعات

الحرب في اليمن انعكاس لخلافات إقليمية لا تخدم المصالح الحقيقية للشعب اليمني

 

 

 

من المؤسف أن نرى الأزمة اليمنية تزداد تعقيدًا على مراحل مختلفة، وكأنّ مصير هذا البلد أن يظل يواجه التحديات والصعاب طيلة تاريخه، وكأنّ القوى والشخصيات الفعالة في المشهد اليمني تأبى أن تستقر الأوضاع، وأن يعيش المواطن اليمني حياة مستقرة آمنة يستطيع خلالها أن يسهم في بناء وطنه، ويثبت للعالم قدرته على العطاء بدلا من الصراع.

الأزمة في اليمن أخذت منعطفا بالغ الخطورة خلال الأيام القليلة الماضية، فيما عُرف إعلاميا بـ"أحداث عدن" والحديث عن سيطرة جماعات انفصالية على مفاصل المدينة التي تمثل العاصمة الثانية للدولة اليمنية، وأكبر مدنها الاقتصادية، ليضاف ذلك إلى قائمة التحديات- بل الصعاب- التي يئن تحت وطأتها الشعب اليمني، سواء في الشتات بين دول العالم أو في الداخل الممزق الذي يتهدده خطر التشرذم والتفكك. ومنذ أن أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي سيطرته على مدينة عدن والأوضاع في اليمن تزداد تعقيدا، فمن ناحية تسببت هذه الأحداث في استعادة ماضٍ قد انطوت صفحته في عام 1990 عندما تمّ توحيد دولتي شمال وجنوب اليمن في دولة قومية واحدة، والتي كانت دلالة على انقضاء أحد أبرز تأثيرات الحرب الباردة على منطقتنا العربية. واستطاع اليمن وقتذاك أن ينحي الخصومة القبلية أو العرقية وغيرها جانبا وأن تركز جميع الأطراف على بناء الدولة الحديثة واللحاق بركب التقدم. ولعل من المفارقات التاريخية التي مرّ بها اليمن، أنّ اتفاق الوحدة بين شطري اليمن الشمالي والجنوبي، تم بعد توقيع "اتفاق عدن" الذي أقر فكرة إعداد مشروع دستور دولة الوحدة، بينما هذه المدينة الآن قد تكون سببا في انهيار ذلك الاتفاق بعد 29 عامًا من الوحدة، إنّها سخرية التاريخ من الأحداث والأشخاص والسياسيين.

الدبلوماسية العمانية- بموقفها المحايد من جميع الأطراف- لم تكن يوما غائبة عن المشهد اليمني، بل إنّها تعلن انحيازها دائما إلى استقرار ووحدة اليمن وضرورة إنهاء أية صراعات، من أجل صالح الشعب اليمني الشقيق، فعلاقتنا مع اليمن ليست فقط مجرد دولة جارة، بل هي علاقات تختلط فيها صلات النسب والمصاهرة، والمصالح المشتركة، بدءا من الحدود المشتركة برا وبحرا، وحتى العلاقات التجارية. كل ذلك يدفع الدبلوماسية العمانية أن تظل دائما على الحياد، وتسعى في كل وقت إلى تهدئة الأوضاع ودعم جهود الاستقرار، وتجلى ذلك في مختلف المراحل التاريخية التي مر بها الشعب اليمني حتى أزمته الأخيرة.

ومنذ اندلاع الحرب في اليمن، رفضت السلطنة رفضا قاطعا الانخراط في أي عمل عسكري، بل إنّها نادت بضرورة إنهاء مثل هذه الأعمال، والدفع نحو طاولة الحل السياسي عبر طاولة التفاوض، وفتحت السلطنة أبوابها لجميع الأطراف لبدء مفاوضات جادة تسعى لإنهاء حالة الحرب وإعادة بناء الدولة وإعمارها.

نعلم يقينا أنّ الحرب في اليمن ليست سوى انعكاسات لخلافات إقليمية وصراع على النفوذ والهيمنة، وأنّه متى ما هدأت هذه الصراعات الإقليمية عاد اليمن إلى وضعه الآمن والمستقر، بيد أنّ هذه الصراعات تتفاقم بين الفينة والأخرى، وما تلبث أن تهدأ حتى تتفجر مجددا. لكنّ المجتمع الدولي لا يزال يعوّل على وعي الشعب اليمني بضرورة الحفاظ على الوحدة وإبقاء الأراضي اليمنية تحت سيطرة حكومة مركزية واحدة، بدلا من تمزيق الوطن اليمني إلى شطرين، فما انقسمت دولة إلا وأصابها التفكك والانهيار والتراجع على المستويات كافة.

ولنا في السودان المثال والعبرة، فقد كانت دولة السودان بشمالها وجنوبها أكبر دولة عربية من حيث المساحة قبل عام 2005، وكانت الدولة السودانية في تلك الفترة قادرة على النمو والنهوض إذا ما وضع فرقاء الوطن السلاح أرضا ونحوا خلافاتهم السياسية والعرقية، واتفقوا على الوحدة بدلا من الانفصال، لكنّ الأقدار لم تكتب لهذا البلد الوحدة، وفرضت عليه الانفصال إلى دولتين، دولة السودان (في الشمال) ودولة جنوب السودان، فماذا كانت النتيجة؟! دولة كبرى تمزّقت أوصالها شمالا وجنوبا، ونشبت صراعات على حصص النفط والثروات الطبيعية والموانئ وغيرها من الصراعات، وصار أبناء الوطن الواحد أطرافًا متناحرة خلّفت وراءها الكثير من الدماء، فضلا عن التردي الاقتصادي والأمني والمعيشي، ولم تعد دولة الجنوب قادرة على تحقيق "حلم الديمقراطية" الذي كانت تسعى إليه في ظل الصراعات السياسية وحرب الاغتيالات والتقلبات السياسية بين أطراف النظام الحاكم نفسه، مثلما حدث مع سلفا كير رئيس دولة جنوب السودان ونائبه ريك مشار، وحتى الآن لم تصل هذه الدولة إلى بر الأمان ولم تحقق ما كانت تصبو إليه من تطلعات لا على المستوى السياسي ولا الاقتصادي ولا أي مستوى. وفي المقابل، ساءت ظروف الدولة السودانية (في الشمال) وتقلّصت مواردها الاقتصادية بعد أن ذهبت معظم عائدات النفط جنوبا، وتفاقمت أوضاع السودانيين وزادت معدلات الفقر مع ارتفاع هائل في التضخم وتراجع كبير في مستوى الخدمات، وآلت هذه الأوضاع الصعبة إلى اندلاع ثورة شعبية أطاحت بالنظام الذي كان سببا في فقدان الجنوب، وتمزيق أوصال الوطن السوداني الكبير.

والمتأمل في الأفكار الانفصالية يتضح له أنّها تركز في الأساس على هدم الجدار الوطني، وتفتيت النسيج الاجتماعي، بدعوى التحرر وتقرير المصير وغيرها من الشعارات التي كانت تُستخدم إبّان عصور الاحتلال الأجنبي لدولنا العربية، فما لبث هؤلاء الانفصاليون أن يرفعوا هذه الشعارات مجددا وكأنهم يريدون الانعتاق عن دولة محتلة، بلا أي منطق سليم يقدمونه.

نموذج آخر يؤكد أنّ الأفكار الانفصالية دائما ما تقود الدول إلى تراجع كبير وتفكك في بنيان الدولة، وغيرها من السلبيات التي تهدم الأوطان ولا تبنيها، فما يحدث في بريطانيا منذ إعلان نتائج الاستفتاء على بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي خير دليل على أنّ الانفصال لا يصيب دول ما يُسمى بـ"العالم الثالث" بل أيضا دول "العالم الأول" المتقدم اقتصاديا وديمقراطيا، وانفصال بريطانيا أو ما يعرف بـ"البريكست" أحدث تداعيات سياسية واقتصادية عنيفة على المملكة المتحدة، وتسبب في إرباك الاقتصاد الأوروبي وإضعاف النمو الاقتصادي العالمي، وغيرها من التأثيرات السلبية. وفي الوقت الراهن تتجرع بريطانيا مرارة قرار الانفصال، في ظل فشل حكومة تلو الأخرى في الخروج من الاتحاد الأوروبي باتفاق بأقل الخسائر الممكنة، وفي الوقت ذاته لم تعد بريطانيا قادرة على العودة إلى مظلة هذا الاتحاد الذي كانت هي واحدة من الأعمدة الرئيسية في تأسيس بنيانه القوي، وهنا مفارقة تاريخية أخرى، فمن وضع لبنة البناء الأولى هو من يسعى إلى الهدم من الجذور.

وأخيرا.. لا شك أنّ تعقد المشهد اليمني يحدث تأثيرات مباشرة وغير مباشرة علينا جميعا في هذه المنطقة المضطربة التي لا يراد لها الاستقرار أو الأمن، بل تسعى القوى الشريرة إلى إبقائها رهن التوتر والفوضى والدمار، فما إن نتخلّص من أزمة حتى تظهر لنا أزمة أخرى؛ ففي الوقت الذي تتكاتف فيه الجهود لرأب الصدع؛ تتشكل غيايات أخرى لنسف هذه الجهود.

إنّ على أبناء الشعب اليمني أن ينظروا إلى ضمائرهم ويستعيدوا ذكريات الماضي بآلامه وأوجاعه وانتصاراته أيضا، وأن يستمعوا إلى صوت العقل ويمضوا خلف خطى السلام والوحدة، حتى يتمكنوا من استعادة وطنهم ممن أرادوا أن يختطفوه؛ تحقيقا لمصالحهم ومصالح أطراف إقليمية هي أبعد ما تكون عن المصالح الحقيقية للشعب اليمني.