عبيدلي العبيدلي
الكتاب الثاني، كما جاء ذكره هو "حول الاستبداد.. عشرون درسا من القرن العشرين"، (On Tyranny: Twenty Lessons From the Twentieth Century)، من تأليف المؤرخ تيموثي سنايدر (Timothy Snyder)، وهو أستاذ التاريخ بجامعة ريتشارد سي ليفين، بجامعة ييل الأمريكية، وزميل دائم في معهد العلوم الإنسانية في فيينا.
واجتهد سنايدر في تحليل الاضطرابات التي اجتاحت في أوروبا الشرقية في القرن العشرين. وهو كتاب لا يتجاوز عدد صفحاته 130 صفحة، من القطع الصغير، لكنه دسم في مادته، وعميق في رؤيته عند تناوله لموضوعات الديمقراطية، ونقيضها الاستبداد.
تنبع أهمية مثل هذا الكتاب في هذه المرحلة، أنه يأتي بعد سقوط سيطرة مفهوم "عالم القطب الواحد"، إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، وتوهم البعض أن العالم يسير نحو حتمية واحدة تقوم على أن الديمقراطية الغربية، التي يقودها النموذج الأمريكي، هي التي ستسود العالم في المرحلة المقبلة. وهي مقولة يرفضها سنايدر، ويقف على النقيض منها.
ولهذا نجد سنايدر يحاول، في هذا الكراس أن يسلط الضوء على بعض الانحرافات الخطيرة المحتملة، التي من غير المستبعد أن تواجه المجتمع الأمريكي، ومن وراءه البلدان الغربية، وتبعدهما عما كان سائدا، من أن هزيمة الفاشية في النصف الأول من القرن العشرين، وسقوط المعسكر الاشتراكي في نهايته، ستقود العالم حتما نحو المزيد من الديمقراطية – الليبرالية، التي باتت بفضل كل تلك التطورات الدراماتيكية الخيار الوحيد أمام المجتمع الإنساني.
وعلى هذا الأساس يوجه سنايدر تحذيرا مدعما ببعض الإشارات الواضحة التي تنذر بفقدان النظام الأمريكي كخطوة أولى، وعلى وجه الخصوص منذ وصول دونالد ترامب إلى السلطة إلى تلك الضوابط والتوازنات التي كانت تؤمن للنظام الأمريكي مقوماته الديمقراطية، وتحول دون ابتعاده عنها، وتقف في وجه محاولات شده نحو أي شكل من أشكال "التسلط"، أو "الاستبداد"، سواء على صعيد الفرد أو المؤسسة.
هذا المدخل النظري من لدن سنايدر يبيح له اكتشاف، ما سبق أن أشار له بعض السياسيين الأمريكيين حين أكدوا أن "الاتجاهات الخطيرة في السياسة الأمريكية التي قد تكون أقل وضوحًا لمعظم المواطنين الذين لا يستطيعون تصديق أن بلدنا، مع نظامها من الضوابط والتوازنات، يمكن أن تستسلم .... للاستبداد".
وعلى حد سواء، يضع سنايدر بين يدي قارئه مجموعة من الأدوات المعرفية التي تمكنه من فهم الاستبداد، من خلال تسليط المزيد من الأضواء على خلفيات تطوره التاريخية، التي أرست أركان معالم نظم العديد من الحكومات، بما فيها تلك التي قامت على أنقاض دول الكتلة السوفيتية، التي ادعت حين خروجها، أنها قامت بذلك تخلصا من الاستبداد الروسي، وبحثا عن مساحة واسعة ن الليبرالية الغربية. وهذا ما يحاول سنايدر أن يثبته حين، يستخدم "أمثلة من أوروبا في القرن العشرين، وخاصة من الأنظمة الشيوعية والفاشية، لتوضيح حججه".
ثمة مقولة في غاية الأهمية يبرزها سنايدر في أول سطر من أول صفحة في "توطأته" لكتابه، يؤكد فيها أن ""التاريخ لا يتكرر، لكنه يفيد". أو بالأحرى "يرشد"، “History does not repeat, but it does instruct”.
وما جاء على لسان سنايدر، قريب إلى حد بعيد هنا مما سبق أن أشار له كارل ماركس حين قال "التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة". و"المهزلة" التي يتنبأ بها سنايدر، أو بالأحرى يحذر منها، هي انتكاسة الليبرالية الغربية لصالح حركة الاستبداد الشعبوية التي تركزت طلائعها مع نجاح وصول ترامب إلى البيت الأبيض.
ومثل هذه الإشارات تنقل الكتاب من صفته التقليدية، إلى ما يشبه "البيان التاريخي"، الذي يعيد إلى ذاكرة القارئ "البيان الشيوعي"، الذي ألفه حينها، شابان، في "عصبة الشيوعيين"، هما كارل ماركس، وفريدريك انغلز، في نهايات القرن التاسع عشر. وتنبأ "البيان الشيوعي" حينها، أنه "خلال فترة وجيزة سيستبدل المجتمع الرأسمالي بالاشتراكية، ثم في نهاية المطاف بالشيوعية".
لم تتحقق نبوءة ماركس حينها، بل على العكس شهدنا انهيار المعسكر السوفيتي في نهاية القرن العشرين. لكن ذلك لا ينبغي أن يقود إلى نتيجة، قد تبدو منطقية، لكن منطقها مسطح، بأن النظرية الماركسية لم تعط تفسيرا علميا يشخص طبيعة النظام الرأسمالي، وآلية قوانينه التي تسير اقتصاده.
لكننا لسنا بصدد الخوض في تلك المقولة، بقدر ما نستذكرها لتعزيز ما جاء في كتاب سنايدر "حول الاستبداد"، من تحذير ينذر بتراجع المجتمع الليبرالي، وتدهوره بابتعاده عن مسيرته الديمقراطية نحو المزيد من الاقتراب من الأنظمة الشمولية والتسلطية، بل وحتى الاستبدادية.
في نطاق الـ126 صفحة، من القطع الصغير يجول بنا سنايدر، في خطوات سريعة متلاحقة في دهاليز رحلته في عالم تشخيص مظاهر "الاستبداد"، التي بدأت تلوح معالمها في سماوات البلدان الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، مستقيا ذلك من خلفية أكاديمية/ نظرية تشرَّب بها خلال مسيرته البحثية، مسنودة بتجارب ذاتية اكتسبها من معايشة لامست التطورات التي تهب رياحها على بلدان الغرب، مقتلعة جذور الليبرالية، كي تغرس مكانها بذور الاستبداد الذي يحذر منه سنايدر.
وفي الفصل السادس عشر، الذي يعنونه سنايدر "تعلم من الأقران (النظراء) في بلدان أخرى"، يحث سنايدر قارئه على ألا يكتفي بالتعلم من الآخرين، فحسب، لكنه أيضًا يشجعه على "تكوين صداقات مع أولئك الموجودين في بلدان أخرى. لكنه يستدرك محذرا أنه في حالة ظهور الطغيان: "تأكد من حصولك أنت وعائلتك على جوازات سفر"، لأنك لن تستطيع أن تقف في وجه موجة ذلك الطغيان، فمن الأفضل أن تتحاشى العيش تحت مظلته.
وينهي سنايدر، كتابه المكثف بقراءته لواقع المجتمعات الليبرالية والمستقبل الاستبدادي المتربص بها، ما لم تدرك القوى السياسية -غير الشعبوية- برفضه مقولتين سياسيتين يعتبرهما بمثابة صمامي أمان لمنطق التاريخ، وآليات تطوره، وهما القائلتين: بـ"سياسات الحتمية"، سوية مع تلك المنطلقة من "سياسة الخلود".
بين الكاتبين: سنايدر والكواكبي مسافة زمنية تقترب من القرن، وينتمي كل منهما لخلفية فكرية تميزه عن الآخر، وتباعد بينهما قناعات عقيدية. لكن كل هذه الاختلافات تلاشت أمام اتفاقهما على قضية واحدة تقوم على رفض الاستبداد والدعوة لقيم الديمقراطية.