د. صالح الفهدي
مواجهة المستقبل.. العقول والقدرات
إنَّ تهيئة الإنسان لمواجهة المستقبل أمر حتمي يقعُ جزء كبير منه على التعليم، يقول إلفين توفلر: "والواقع أن إحساس الفرد بالمستقبل قد يكون من بين أهم الأسباب الكامنة الموصلة للتكيف الناجح، ونستطيع أن نرى من بين من حولنا من الناس، أن أولئك الذين يواكبون التغيير والقادرين على التكيف من حولنا من الناس، هم أولئك الذين تربى لديهم إحساس أغنى وأفضل بما هو مقبل، من أولئك الذي يفتقرون إلى القدرة على التكيف. لقد أصبح توقع المستقبل عادة بالنسبة إليهم".
ولا شك أنَّ أحد أهم واجبات التعليم إعدادُ المتعلمِ للتعاطي بكفاءة مع المتغيرات التي يشهدها العالم، والانخراط بوعي في الأنشطة الإنسانية التي تزدادُ تطوراً في مجال العلوم يوماً بعد يوماً. وإذا كانت الوظائف المرتبطة بالثورة الصناعية الرابعة تقدر حالياً بـ0.05% من مجموع الوظائف الحالية، فإنها لا شك ستزداد توسعاً، بل ستكونُ أكثرُ شراسةً في إقصاءِ وإلغاءِ الوظائف الحالية التي ستصبحُ تقليدية ومتأخرة؛ الأمر الذي يحتمُ التغيير في المفاهيم المرتبطة بالتعليم للتجاوبِ مع المتغيرات المتسارعة.
وهنا ينبغي أن يشملَ تغيير المفاهيم حالتين؛ هما: حالةُ العقليات، والقدرات؛ فأما العقليات فقد اقترح هاري جاردنرد في كتابه "خمسة عقول لمواجهة المستقبل"؛ وهي بمثابة أدوات قيمة للباحثين عن بناءِ قادة للمستقبل، ويرى أنه في حال تجاهل هذه العقول، وعدم الاهتمام بها اهتماماً يؤهلها للتعاطي بفاعلية مع المتغيرات المطردة، فلن تتحقق الأهداف المنشودة للرقي، والتطور الذي تنشدهُ الدولُ والمجتمعات. وهذه العقول هي:
- العقل المنضبط: وهو يُعنى بإتقان المتعلمين للمعلومات ضمن التخصصات الرئيسية مثل (التاريخ، والعلوم، والرياضيات..إلخ).
- العقل التوثيقي: ويُعنى بتنتظيم الكميات الكبيرة من المعلومات والمعارف المتاحة، وفرز المعلومات المهمة عن غيرها من المعلومات الأقل أهمية، كما ويشمل التواصل الفعال مع الآخرين.
- العقل المبدع: ويُعنى بالتفكير خارج الصندوق، ويتيح للفرد فرصة الإبداع والاختراع، وتناول المشكلات من زوايا مختلفة، ومراجعة ردود الفعل السلبية تجاه التغيير الذي يقوم فيه.
- العقل المحترم: وهو يُعنى بتقدير الاختلافات بين الأفراد والتسامح معهم، واحترام وجهات النظر المختلفة، وإبداء التفهم للعمل مع جميع البشر.
- العقل الأخلاقي: ويُعنى بالإخلاص في العمل وتحمل المسؤولية من قِبل جميع الأشخاص في المجتمع، وهو يتطلب مزيداً من التفكير المجرد.
إنَّ المفاهيم في تجدُّدٍ مستمر، تبعاً للمتغيرات التي يشهدها العلم؛ فتتبعه المتغيراتُ الأُخرى على مختلف الصعد: الاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية...وغيرها، ومن هذه المفاهيم:
* أنَّ المعلومات اليوم هي القوة الناعمة التي تحفظُ للشعوبِ استقلالها، وتمنحُ الدول قوتها ومنعتها، وليس القوة الصلبة.
* أنَّ المجتمعات البشرية قد أصبحت تصنف اليومَ على أساس "من يعرف ومن لا يعرف" وليس على أساس "يملك ومن لا يملك".
* أنَّ الوظائف المستقبلية المرتبطة بالثورة الصناعية الرابعة مختلفة كليةً عن الوظائف الحالية؛ مما يتطلب تكيفاً وتأهيلاً لشغلها بفاعليةٍ وكفاءة.
* أن التعليم الحقيقي هو المرتبط بالمتغيرات، والمتفاعلِ مع تطوراتها المتلاحقة وليس ذلك المنعزلِ عنها، من أجلِ معرفةِ طبيعتها، وإعداد قوى بشرية تستطيعُ أن تستوعبها دون شعور بالخوفِ أو القلق.
* أنَّ التعليم الفعال هو القادر على توثيق الصلة بين المجتمع وأفراده لأحداث التنمية الشاملة في عالم متغير، وهو ما يعني تحدياً للمؤسسات التعليمية (المدارس، الكليات، الجامعات، المعاهد، المراكز..إلخ)؛ حيث لم يعد دورها محصوراً في إعداد طلاب يشغلون وظائف تقليدية، وإنما التكيف مع المستقبل من نواحٍ نفسية، وفكرية، وعلمية.
* أنَّ التقدم التكنولوجي سريع ومتلاحق والمعرفة فيه تتجدد بصورة مهولة، وهو ما يحتم مواكبة العقليات وإلا صنفت في عِداد الأميينِ إذ الأمية لم تعد محصورة في عدم القدرة على الكتابة والقراءة، كما لا يزالُ المفهوم سائداً.
يقول إلفين توفلر في كتابه "صدمة المستقبل": "إننا نعطي أولادنا دراسات في التاريخ؛ فلماذا لا نعطيهم أيضاً دراسات عن المستقبل، نستكشف فيها إمكانيات المستقبل واحتمالاته بطريقة منهجية"، وينقل عن روبرت يونك -وهو من أبرز فلاسفة أوروبا المستقبليين- قوله: "في وقتنا الراهن، يكاد يكون التعليم مركزاً تركيزاً تاماً على ماذا حدث، وما صنع؟ أما في الغد، فلابد من أن يخصص ثُلث المحاضرات والتدريبات على الأقل للاهتمام بالأعمال الجارية في المجالات العلمية، والتكنولوجية، والفن، والفلسفة، ومناقشة الأزمات المتوقعة والحلول الممكنة مستقبلا لمواجهة تحدياتها".
وإلى جانبِ إعداد العقليات، فإن مواجهة المستقبل، بحاجة لعُدة يتسلحُ بها المواجهون للمستقبل، وهي مجموعة قدراتٍ لا غنى عنها للمتعلم من أجلِ أن يتحلى بالفاعلية والقدرة على التعاملِ مع شتى التحديات، وأنواعِ المشكلات، وهذه القدرات هي: القيادة، ريادة الأعمال، التواصل، المواطنة العالمية، حل المشكلات، العمل كفريق كامل، الذكاء العاطفي ومحو الأمية الرقمية.
وخلاصةُ القولِ.. إنَّ مفاهيم التعليم يجبُ أن تحول وجهتها من الخوضِ في الماضي الصامتِ، الخامد، إلى المستقبل القادمِ بتحدياتهِ، وتعقيداته؛ بحيثُ يكون الجزءُ الأكبرُ من التعليمِ مخصصاً لاستكشاف المستقبل سعياً لتكييف العقلياتِ وإمدادها بالقدرات الملائمة.