الوطن بحاجة للتفاني لا للتهاني

مسعود الحمداني

تحلُّ المناسبات الوطنية العزيزة على قلب كل مواطن، تأتي وتذهب وتعاود كرّتها، فنفرح بها، ونتوق لها، ونتغنى بأمجادها، وندبج المقالات في مديحها، ونكتب الشعارات في الثناء عليها، ويسافر الشعراء بخيالاتهم في ملكوتها، ويتهامس الرجال في مجالسهم العامة بذكرياتها، وترتحل ذاكرتنا في مفاصلها وتواريخها، ونستذكر أحداثها وهي التي لم تغب عنا، ولم ننسها يوما، نفعل كل ذلك وأكثر، ومن بيننا في الواقع -للأسف- مقصرون في حق وطنهم، ومهملون لحقوقه، ومنشغلون بأكل لحمه، وشرب دمه، وخرق نظامه، وسحل قوانينه، يغتالونه دون رحمة، ويرجمونه دون رأفة، ويرمون شجرته المثمرة بحصى المارقين الحاقدين بقصد ومع سبق الإصرار والترصد أحيانا، ودون قصد أحيانا أقل.

يسيء المواطن لوطنه حين لا يقوم بواجباته، ولا يراعي حقوقه، يحاول خرق القانون بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة ليصل إلى مبتغاه وهدفه، حتى لو كان ذلك على حساب ضميره وذمته، ويسيء المسؤول لوطنه حين تلهيه مصالحه الخاصة عن مصالح الدولة، ويتحول إلى أداة شرهة لتكديس المال والتربّح بشتى الوسائل، والأخذ دون مقابل، وتحطيم منظومة المبادئ والقيم الأخلاقية من خلال استغلال نفوذه ومنصبه للكسب غير المشروع، ويتخطى قوانين هو من أصدرها!! ويسيئ الكاتب لوطنه حين يجامل وينافق ويجمّل الواقع بدلا من أن ينقله بأمانة، لكي يتقرّب لمسؤول أو يصل لغاية، ويسيء المواطن لوطنه في الخارج في سفره حين يتصرف برعونة ولا مبالاة فينقل صورة سيئة عن وطن بأكمله، ويسيء الطالب لوطنه حين يتسرّب من المدرسة ويبدأ في طريق مجهول يهوي به إلى الانحراف، ويسيء المعلم لوطنه حين يتهاون في رسالته، ويهمل تدريس تلاميذه، ويسهم في تخريج طلاب نجحوا بالغش والخداع، ويسيء التاجر لوطنه حين يتلاعب بالأسعار، ويساعد في تفشي التجارة المستترة، ويسرّح أبناء وطنه من شركاته ويقرّب الغريب، ويسيء رجل الأمن لوطنه حين يقصّر في أداء مهامه، ويغفل واجبه المقدّس، ويسيء الطبيب لوطنه حين يخون القَسَم الذي أقسم عليه قبل تخرجه ويهمل مرضاه، ويسيء المهندس لوطنه حين يغش في البناء، ويسيء الرجل لوطنه حين يغرس بذور الأنانية والسلوك غير السويّ في نفوس أبنائه، وتسيء الأم لوطنها حين تتحوّل إلى قدوة سيئة لبناتها، وتهمل تربية أطفالها.

هؤلاء جميعا قد يكونون في مُقدمة المهنئين بالمناسبات الوطنية، يرفعون شعارات الوطنية، ويتغنون بها، لكنهم يسيئون لوطنهم من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، وكان الأولى بهم أن يعدلوا من ميلهم، ويستقيموا في وطنيّتهم، ويرفعوا من قيمة أنفسهم ومن حولهم، ويلتفتوا إلى إصلاح ما أفسدوه، ويجعلوا من (الوطن) قيمة عظمى يتفانون في خدمته، ويعلون شأنه، بدلا من التشدق بحبه، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك.

وفي خضم تلك الفئات الشاذة حالكة السواد، تبرز البقعة البيضاء الأكبر يتقدمهم رجال مخلصون أفنوا عمرهم وحياتهم من أجل هذا الوطن ورفعته، سهروا وما وهنوا، وبذلوا وما بخلوا، ليبقى وطنهم عزيزا شامخا، يحظى بالسلام والخير، وليصل إلى قمة مجده وعزته، مواطنون قادهم قائد حكيم -حفظه الله- ليصل بسفينتهم إلى بر الأمان، فليتأسوا به، وليقتدوا بإخلاصه وتفانيه، لكي يصنعوا من هذا الوطن واحة سلام لا باحة كلام، فالوطن -أيها الأعزاء- بحاجة للتفاني، أكثر من حاجته إلى التهاني.