عبيدلي العبيدلي
في عددها رقم 197، اختارت مجلة "الثقافة العالمية" *الصادرة عن "المجلس الوطني للثقافة والفنون" الكويتي- موضوع "التكنولوجيا والمستقبل"؛ كي يكون ملف ذلك العدد. وقد كان الاختيار مُوفقا، من حيث صياغة العنوان؛ حيث بات ذلك المستقبل حديث الأوساط العلمية، ومجالس المواطنين، المتشوقين لسبر أغوار المستقبل الذي ينتظر حركة التطور التكنولوجي، وعلى قدم المساواة، ما الذي سيحمله ذلك المستقبل من نقلات نوعية ترافق من يسير في طريق تك الحركة.
ومن أبرز ما جاءت به التكنولوجيا -وهو الذي سيرسم معالم مستقبلها- كما تقول "كلمة العدد"، كانت مجموعة من التحولات النوعية، جسدها على نحو ملموس: "إلغاء الحدود، وتقصير المسافات أمام المال والتبادل التجاري، ونقل المعلومات والمعرفة، والثقافة والأحداث والتواصل الاجتماعي وغيرها".
وتحمل هذه العبارات المقتضبة إشارات تفصح عمَّا ينبغي التهيؤ له بفضل تلك التكنولوجيا. فعندما نقول، ومن ثم نقبل، بأنَّ التكنولوجيا سوف "تلغي الحدود، وتقصر المسافات"، ليس المقصود هنا تسهيل الإجراءات الحدودية، ولا شق الطرق السريعة فحسب، بقدر ما هو ذلك الانفتاح الواسع الذي سوف يسهل نقل المعرفة، وعلى نحو أدق "التلاقح الحضاري". وهذا بدوره يثير علامة استفهام مشروعة أمام نتائج ذلك التلاقح، فمن الطبيعي، وكما توحي كلمة العدد، ستكون الغلبة لتلك الثقافة التي تملك بين يديها أسرار ذلك التقدم التكنولوجي، الذي سيمكنها من فرض قيمها، ومن ثم سيطرتها على تلك الثقافات، غير القادرة على مواكبة ذلك التطور، أو التفاعل معه بشكل إيجابي.
وتلفت كلمة العدد -على نحو جدلي- إلى ما يحمله مستقبل التكنولوجيا من ثنائية السلب والإيجاب، مشددة في البداية على الاستخدامات السلبية المرافقة للتقدم التكنولوجي، مستعينة بمثال الطائرات المسيرة "الدرونز"، التي "يقوم بعض المتطرفين باستخدامها في أعمال إرهابية". لكنها، أي "كلمة العدد"، تنوه إلى الجوانب الإيجابية، فتشير إلى "دخول التكنولوجيا في الطب، وعلاج الأمراض المستعصية".
ومن كلمة العدد، ننتقل إلى الأبحاث الرصينة التي زخر بها ذلك الملف الذي استحوذ على ما يقارب الـ78 صفحة (46-123)، وتنوعت القضايا المثيرة للجدل التي غطت مادة تلك الأبحاث التي بلغ عددها عشرة مقالات، عالجت قضايا متنوعة مثل "وهم النمو الفائق السرعة"، و"هل المنصات مفيدة؟"، و"غرابة الذكاء بشتى أنواعه"، والمقصود هنا من بين أنواع الذكاء ذلك "الذكاء الاصطناعي"، و"التجربة العلمية التي ستستمر 50 عامًا".
ولا بد من لفت النظر هنا إلى أن جميع مقالات ذلك الملف هي مترجمة من أبحاث أجنبية، وهو سياسة تلزم المجلة نفسها بها، وكما يوحي بذلك اسمها "الثقافة العالمية".
بعد هذه المقدمة العامة، في بحث "النمو الفائق السرعة"، تكشف الكاتبة إيلين هانت بوتنغ "وقد نسب المقال خطأ للكاتب إدوارد تينر"، قضية في غاية الأهمية وهي، أن "تطوير اختراع كبير ليس له تطبيقات واضحة في المجال العسكري أو مجال الصحة العامة قد يستغرق وقتا أطول ليخرج إلى النور...". في ذلك إشارة واضحة إلى عدم حيادية التطور التكنولوجي؛ فتطوير القطاع العسكري تكنولوجيا، هو الذي يبيح للدول التي تملك تلك التقنية من بسط نفوذها على الدول الأخرى التي ليست بحوزتها تلك التقنية، إلى جانب قدرتها، تحت دوافع كثيرة، على فرض الأسعار التي تحددها على المشتري. والأمر لا يختلف كثيرا عندما يتعلق الأمر بالأدوية على وجه الخصوص، أو المعدات الطبية التي تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة.
نقطة في غاية الأهمية يتوقف عندها بحث "غرابة الذكاء بأنواعه"، عندما يرد في إحدى فقراته ما نصه، و"حيث إن العالم الحقيقي هو عالم التجربة والخطأ، فقد يكون الذكاء الاصطناعي مثله مثل البشر قادرا على التعلم بسبر الأغوار تعمقا، لكن ليس بصورة جيدة. واكتسابا، قد يلقن الذكاء الاصطناعي ويخطئ على حد سواء من خلال سرد القصص. وإذا ما كانت البرمجة الخاصة به تافهة، فلن يعالج الحاسوب البيانات بشكل صحيح. في حال كانت تلك البيانات غير صحيحة فسينتج تحليل خاطئ".
وفي هذا الاستنتاج المكثف مسألة في غاية الأهمية، تتفرع نحو طريقين: الأول منهما يقول أن من يريد أن يستخدم الذكاء الاصطناعي في التحليل، فعليه أن يلقم حاسوبه بمعلومات ليست دقيقة قدر الإمكان فحسب، ولكنها صحيحة أيضا. وهذا ينطبق على مقولة حاسوبية قديمة يقول اختصارها (GIGO)، والمقصود بها هنا (Garbage in Garbage out)، والفرع الثاني وهو الأهم، وهي أنه بقدر ما نزود الحاسوب بكميات أكبر من المعلومات الصحيحة، بقدر ما يمكنه عن طريق التجربة والخطأ أن يمد صاحبه بالقرار الأكثر قربا من الصحة والمنطق السليم.
وفي بحث "التجربة العلمية التي ستستمر 500 عام" تستهل الباحثة سارة تشانغ قائلة: "في العام 2514، سيصل أحد علماء المستقبل إلى جامعة أدنبره (دعنا نفترض أن الجامعة ستظل قائمة)، وسيفتح صندوقا خشبيا (ولنفترض أن الصندوق لن يفقد)، سيفصل عندئذ مجموعة من القارورات الزجاجية عن بعضها البعض من أجل ان يستزرع بكتيريا مجففة عمرها 500 عام".
هنا.. من الطبيعي أن يدب القلق في ذهن الباحث والمواطن العربي على حد سواء؛ فمستقبل البحث العلمي ترسم معالمه جهود اليوم، ولا يمكن لمن لا ينخرط في جهود البحث العلمي كما يفرضها التطور التكنولوجي اليوم ان يكون عضوا في مجتمع تكنولوجيا المستقبل. فبذور تكنولوجيا المستقبل يجري غرسها اليوم، وليس بعد 500 عام كما يوحي ما ورد في دراسة الباحثة سارة.
ما إن يخلص القارئ العربي، حتى القارئ العادي، من قراءة تلك الأوراق العلمية حتى يجد نفسه، بدون سابق قرار، أسير علامة استفهام كبيرة، تحلق فوق رأسه بإلحاح: أين نحن العرب من كل هذه الثورة العلمية، وكيف سيكون مستقبلنا التكنولوجي الذي ينتظرنا أمام مثل هذه الثورة؟
أترك للقارئ الكريم فرصة الاستمتاع بقراءة الملف عند اقتنائه ذلك العدد من "الثقافة العالمية"، وأدعه من الآن يفكر في مستقبل أحفاده بعيدا عن الأنانية التي تدفعه، بوعي أو بدون وعي، لحصر تفكيره الضيق في ذاته فحسب.