عبري .. الدقم

عائشة البلوشية

المشهد الأول:
في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، مرضت جدتي-أطال الله في عمرها- وكنَّا في طريقنا إلى مسقط، حيث أخذت سيارة اللاندروفر تحث السير عبر طريق ما بين الممهدة والوعرة، محدثة ضجيجاً صاخبًا، ومخلفة كمية لا بأس بها من الغبار وراءها، ولأنَّ الرحلة كانت تستغرق ما يزيد عن خمس ساعات، عبري التي جاءت تسميتها بهذا الاسم لأنها ملتقى القوافل العابرة قديمًا ببضائعها إلى نجد والحجاز والبحرين، أو تلك التي تحمل الحجاج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، فكانت تتوقف لتتفيأ ظلال نخيلها وبساتينها، وتتزود بالتمر والسمن والإقط والدقيق، وطعام الإبل والركاب، أو ربما التزود ببعض البضائع أيضاً كاللومي وعسل السمر والجباب،  ودبس التمر، وأجود منتجات البر، وبعد أن ارتفعت درجة الحرارة، قرر عمي الشيخ علي بن سويدان أن يتفيأ ظلال سمرة في وادي المعيلف، لنتناول وجبة من خبز البر والبلاليط والحليب بالسعتر، ثم نواصل المسير.

المشهد الثاني:
كنت وزوجي في رحلة إلى خارج السلطنة، وكانت قاعة الطيران العُماني في مسقط، تعج بالمغادرين إلى وجهات شتى، ولكنها على غير العادة مُمتلئة بالعمانيين الذين يلبسون الدشداشة العمانية والمصر، فكان المشهد مبهجاً للنفس، ليس بسبب انتشار اللون الأبيض وحسب، ولكننا صادفنا أحد أبناء العمومة، فعلمنا أن أغلب من في القاعة مُغادرين إلى أعمالهم بمدينة الدقم، ودار في ذهني عندما بدأ شباب الولايات المختلفة بالعمل في محافظة مسقط، في مختلف جهات الجهاز الإداري للدولة، ويعودون إلى ولاياتهم في نهاية كل أسبوع، إما بمركباتهم أو مع زملائهم، واليوم أصبح الشباب يذهبون إلى مدينة الدقم للعمل، ثم يعودون إلى منازلهم في نهاية كل أسبوع، مستقلين طائرات الطيران العماني، من الدقم وإليها، والجميل في الأمر استمتاعهم بما يقومون به من عمل.
فذهب بي الخيال إلى حيث ذلك الزمان عندما كانت عبري معبرًا للقوافل، فهمست في نفسي قائلة سيعود ذلك الزمان حتماً، وسيكون هنالك رابط قوي بين المنطقة الحرة في ولاية عبري، وبين هيئة الدقم، فها هي اليوم مدينة الدقم مرسى للقوافل، التي باتت تتوالى عليها برا أو بحرا أو جوا، إما استثمارا أو تصنيعًا أو ميكنة، ويطل حوض السفن الجاف على بحر العرب، ليقدم خدماته لمن أراد الجودة، وولاية الدقم هي إحدى ولايات المنطقة الوسطى في سلطنة عُمان، حيث تتخذ موقعها في الركن الجنوبي الشرقي من المنطقة الوسطى، تجاورها ولاية "محوت" شمالاً، وولاية "الجازر" جنوباً، وولاية "هيماء" غرباً، أما إشراقتها فتصبح يومياً على زرقة بحر العرب، هذه الولاية التي أصبح لها ما لها وعليها ما عليها من ثقل جغرافي وسياسي واقتصادي، بسبب موقعها الاستراتيجي.

تمتد سواحلها الرائعة على شاطئ بحر العرب لمسافة مائة وسبعين كيلومتراً، ويعمل معظم سكانها بالصيد أو الغزل والنسيج سابقاً، إلا أن "فترة الخريف" –هكذا يطلقون عليها في ولاية الدقم كما في محافظة ظفار– وهي الأشهر الثلاثة التي تبدأ من شهر يونيو لتنتهي في شهر سبتمبر، حيث تنخفض خلالها درجة الحرارة إلى ما دون 25 درجة، لذا يصبح المناخ غير مناسب لنزول البحر، مما كان يضطر الصيادين قديماً إلى الرحيل باتجاه ولايات أدم ونزوى وغيرها من ولايات محافظة الداخلية، حيث يعملون هناك بالزراعة خلال موسم جمع التمور، وتلك التي يسمونها برحلة الصيف. وأثناء عودتهم إلى ديارهم المنتشرة على سواحل الدقم، كانوا يحملون مخزوناً من التمور يكفيهم بقية العام، وكانت رحلة الصيف تستغرق في السابق، أي قبل عام 1970م خمسة أيام متواصلة على ظهور الركاب –الإبل أو الحميروكانت رحلة الشتاء تستغرق حوالي عشرة أيام، نظراً لأنها محلمة بالتمور في رحلة العودة من الداخلية إلى الدقم.
أبرز شواطئ الدقم الرائعة بنظافتها ومياهها الصافية، التي تتمايز ما بين الزرقة والخضرة، ونقاء رمالها الناعمة، وهوائها الذي يتميز بميله إلى البرودة الخفيفة، هو شاطئ "الشوعير" الذي يبعد عن مركز الولاية بحوالي عشرين كيلومتر تقريباً، وقد تبعثرت على مسافات متفرقة منه بيوت الصيادين المملوءة بالحنين لأهلها لحين عودتهم من موسم الهجرة إلى الشمال، أما شاطئ رأس مدركة، فهو خاص بما يُعرف اليوم بسياحة المخيمات، حيث يأتون إليه بسياراتهم من كل حدب وصوب.

إن الأمر ليس مقصورا على عبري والدقم وحسب، بل إن كل شبر في بلادي ثروة استثمارية ذات عائد استثماري، لمن أراد التفكر وإعمال العقل بأمانة وإخلاص.

-----------------------------------------------------


توقيع:

من منِّا لا يتذكر هذه الكلمات:
"
اسم أول.. ربنا نعتز به
اسم ثاني.. حبنا للحبيبة
يا عُمان الحبيبة..
كل خائن.. عهدنا سنصيبه
نار تشعل.. في فؤاده لهيبه
يا عمان الحبيبة.."
بصوت الفنان محمد حبريش وسيدة الفن البدوي سميرة توفيق.