تغييب العقل العربي

 

 

عبيدلي العبيدلي

 

تتوالى التوصيفات المُجتهدة في بحثها عن تشخيص صحيح، دقيق المعالم يحدد أطر الوضع العربي المعاصر. فبينما نجد مثل الاجتهادات لدى الكاتب كاظم الموسوي الذي يرى أن المشهد السياسي العربي في "هذه الأيام، (يسجل) حالة مركبة ومربكة من التعقيد والفشل تبلغ حدودا لا تحسد عليها الشعوب العربية، وقد تعرّضها هي والوطن العربي إلى مخاطر جدية وقضايا مصيرية"، يطالبنا الكاتب شاكر فريد حسن بأن نعترف "بأننا نعيش في حطام الزمن العربي المنهزم والمتآكل الذي يزداد غموضاً وإرباكاً، قتامة، انهزاما وسقوطاً. وأمام مشهد سياسي عربي تحكمه سلطة الوعي الزائف والمتخلف، ويسوده الانحطاط السياسي والثقافي والانفلات المادي والانتفاخ الطاووسي". ويكمل الموسوي هذه النظرة السوداوية في مقال آخر ينطلق فيه مما يشهده المشهد السياسي العربي من "صراع حاد بين الإرادات القائمة فيه، وبين الإرادات الشعبية والحكام الديكتاتوريين، أو الرافضين لعمليات الإصلاح والتغيير السلمي والواجب عمله بعد وضوح الصورة وتبين الأمور إلى الدرجة التي لا يُمكن الصمت عليها أو التردد في اتخاذ القرارات الصحيحة والصائبة بشأنها، وتخليص الشعوب والبلدان من كوارث الدم والحرمان والحروب الأهلية، أو إعادة الاستعمار المباشر".

وعلى نحو مواز يغوص الكاتب عمر عبدالعزيز في أعماق التاريخ مستنجدا به فيقول "تتحقق المقولة التاريخية التي تقرأ جغرافيا المكان بوصفه دالة كبرى في زمن التحولات العاصفة. فالجغرافيا العربية تتموضع في قلب العالم القديم، من حيث متاخمتها لآسيا وإفريقيا وأوروبا.. هذا العالم القديم الذي يظل متربعاً في قلب القارات والحضارات والأديان، سيظل حاملاً للمعاني الكبيرة مهما تطاولت الأزمان وتغيرت الأحوال".

يشذ عن تلك النظرات السوداوية، المغرقة في تشاؤمها المستمد من احتدام الصراعات العربية الحالية، وما تفرزه من ظواهر سلبية تنعش مثل تلك المداخل المتشائمة في توصيف المشهد السياسي العربي، مقالة لأحد صحفيي موقع "الـ بي بي سي" العربية، من غير العرب، "برايان لوكفين" يقول فيه "في ظل ندرة المياه، يرى البعض أن الماء سيصبح سلعة اقتصادية تباع بأسعار تضاهي أسعار النفط. وفي العقود المقبلة، ستؤثر إمدادات المياه على المشهد الجيوسياسي، والتحرك الدبلوماسي، وربما تتسبب في وقوع صراعات بين البلدان".

العامل الجامع بين ما جاء بتلك المقالات وأخرى غيرها، وهي كثيرة، سقوطها في مصائد اليأس الذي أخفى عنها ما هو أشد قسوة، وأكثر خطورة، وهي أن أحد أسوأ إفرازات المشهد العربي المعاصر اليوم، هو تغييب العقل العربي وشل حركته عن الفعل والعمل الموضوعي القادر على القيام بقراءة صحيحة لهذا الواقع من أجل الخروج برؤية سليمة تعين، من يُريد سلوك طريق الخلاص في دوائر صناعة القرار العربي على تجاوز العقبات، مهما بلغت صعوبتها، والوصول بالمركب العربي إلى شواطئ الأمان، مهما طالت المسافات التي تفصلنا عنها، أو العواصف التي تحرفنا عن السير في الطريق السليمة نحوها.

إن وأد العقل العربي، وهو في أول خطواته على طريق نهضوي، بالمعنى الحضاري الشامل المتكامل لمفهوم الانطلاقة النهضوية، كان عاملاً مهماً فيما آلت إليه الأوضاع العربية من تردي من جانب، وفي شيوع وتداول تلك النزعات المغرقة في تشاؤمها من جانب، ومن ثم رواج تأثيراتها السلبية العميقة من جانب آخر. هذا لا ينفي وجود بعض الاستثناءات التي إن لم تحارب، وتوأد بشكل مدروس وممنهج، فقد كانت دوائر تأثيراتها غاية في الضيق والمحدودية.

وتغييب العقل العربي، وخاصة عن المشهد السياسي، مارس دوره السلبي في انتعاش سلوكيات، وتمظهر في شيوع سياسات هي أبعد ما تكون عن ذلك العقل الصافي النهضوي الذي ما زلنا نبحث عنه.

فوجدناها على الصعيد الاقتصادي تجرف العقل العربي نحو الترويج للسلوكيات الاستهلاكية من جانب، والاعتماد على المستورد من الخارج من جانب آخر، فأغرقت الرساميل العربية في رمال تلك العقلية المتحركة، فأدخلت الاقتصاد العربي في أوحال التبعية، وجردته، رغم الإمكانات البشرية، والسيولة النقدية، والموارد البشرية التي كانت بحوزة صانع القرار العربي، الذي لم يحسن استخدامها، بفضل تلك الذهنية ذات العقل المغيب.

والأمر لا يختلف، عن ذلك عند الحديث عن المشروع السياسي العربي، حيث، اكتشف المواطن العربي، لكن في وقت متأخر جدا، أن وأد العقل العربي، قاده نحو مشروعات سياسية تجزيئية، مارست بوعي مدروس، تشويه صورة، ومن ثم برامج مشروعات العمل الوحدوي  العربي الذي كان في مراحله الجنينية، ولم تسمح لها أن تتطور من درجات الحلم، إلى مستوى المشروع المُقام على الأرض.

وكررت الحالة نفسها، أي وأد العقل العربي، عند الوصول إلى محطة التأهيل العسكري العربي، الذي حول الجيوش العربية، من منظومات عسكرية فعالة، إلى مجدر متاحف عسكرية معاصرة، تزخر محتوياتها بآخر ما انتجته المصانع الحربية العالمية، لكنها لا تتجاوز حدود العرض غير المجدي في ساحات الوغى. وانحرفت الآلة العسكرية العربية عن طريقها السليم الباحث عن دور استراتيجي يضع العرب في مصاف الأمم القوية عسكرياً، إلى مسارح التباهي بمقتنيات صماء تبحث عن المنظومة التي يضعها لها العقل العربي الذي بات عاجزا بعد أن جرى تغييبه.

ويبلغ التغييب الذي نتحدث عنه، مداه الأقصى، عند الغوص عميقاً في دهاليز الوضع الاجتماعي العربي، والذي بنى لنفسه كيانًا متماسكًا عبر سنوات من الصراعات المواجهة (بكسر الجيم) لأية شرذمة اجتماعية من شأنها هد التماسك الاجتماعي العربي. ولمس المواطن العربي البسيط نتائج ذلك التغييب للعقل العربي عند معالجة القضايا الاجتماعية، أو وضع الحلول المناسبة للتطورات العالمية التي لم يكن بالإمكان، بل من الخطأ القاتل، عزل العالم العربي عنها. وأدى ذلك، فيما أدى إليه، لعودة الروح إلى جثة النزعات الطائفية التي نجحت دعواتها في تمزيق شرايين المجتمع العربي التي كانت تمد العرب بدماء التماسك المجتمعي، الذي كان أساس وحدتهم، والعنصر الأقوى في نهوضهم.

محذور هنا ينبغي التنويه له، وهو أن أسوأ المعاول في تعزيز مساعي الاستمرار في تغييب العقل العربي، هي الوقوع في أسر النظرات السوداوية المغرقة في تشاؤمها، فعوضًا عن ذلك ينبغي أن تكون مواجهة ذلك التغييب  المزيد من الإصرار، المفعم بالأمل، والمنطلق من نظرة تفاؤلية استراتيجية.

لكن يقتضي التنويه بأن الإصرار والأمل وحدهما لن يكونا كافيين، ما لم يتم استعادة العقل العربي من تلك الغيبوبة.