المعيار

عائشة البلوشية

"من فرّط في القليل هان عليه الكثير"، جملة كنت قد قلتها لأحد الإخوة قبل ثماني سنوات، وربما إذا مرّ هذا الشخص على سطوري هذه، وذاكرته لا تزال على عهدي بها، لتذكر الموقف الذي دعاني لاستحضار هذه المفردات حينها، ولهزّ رأسه أسفًا على تمريرها مرور "غير الآبه" طوال هذه السنوات.
نعم، فرغم أنّها رؤيتي الخاصة بي، ومبدأ أسير عليه في حياتي، لكنني أظن أنّ الكثير يؤمنون بنفس المبدأ، فمن ساوى ذرة الرمل في وطنه بسبيكة الذهب، لرأى الجبل كونا من الحب لا حدود له، وحتى أولئك الذين يجاهرون بالعكس، تجدهم يوافقوننا الرأي سرًا، بينهم وبين قلوبهم، لأنّ جدرانها بنيت بنبض يهتف بترديد نشيد الحب لهذا الوطن، بشكل يومي، لكنّها نزعة شيطانية تلك التي لعبت بعقولهم.
ترى ما هو المعيار الذي يجب أن يكون بمثابة "رمانة الميزان" في داخل كل امرئ منا؟ لأنّه لابد من وجود مجموعة من المعايير التي تشكل النسيج الذي يكسو شخصياتنا، ولكن هناك معيار واحد بمثابة الركيزة الأساسية، أو عمود الخيمة الرئيسي، ولنفترض انتفاء وجود ذلك العمود، ما الذي سيحدث؟ سنجد أنّ الخيمة قد تبقى مكانها، ولكنّها لن تكون بشكلها المعروف أو ثباتها المنشود، وبالرغم من التأكيد على أهمية توفر مكارم الأخلاق في الشخصية المسلمة، إن لم تكن كلها، فالبعض منها لا بد من وجودها، لأنّ رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم جاء ليتمم مكارم الأخلاق، فالأخلاق كانت موجودة في الجاهلية، ولكنني لازلت أبحث عن ذلك الخلق الذي يجب أن يكون موجودا ليضفي على الشخصية ذلك الرونق الذي يجعله محط اختيار من قبل أي رئيس أو لجنة/فريق مقابلة، وبذلك الخلق تكاد ملامح الشخصية أن تصل إلى الكمال، فتذكرت أنني ومنذ طفولتي استمع إلى جدتي- أمدّ الله تعالى في عمرها- وهي تشدد دائما على قول: "إيييييه، فلان أمنتك أمانة ونشدتك عنها"، أي أنني قد استأمنتك أمانة وجئتك اليوم لاستردها، لأنّه طال الزمان أو قصر تأتي اللحظة التي يرغب صاحب الأمانة في استردادها، لذلك كلما مررنا بموقف أو حادثة بعينها أنا وشقيقتي معها، أجد جدتي تردد هذه المقولة، لتؤكد لنا أننا وإن كنا حفيدتيها،  لكننا -أمام والدي- أمانة في عنقها، وكي تؤكّد لنا على أهميّة الأمانة وعظمها في جملة الأخلاق التي يجب أن تكون لنا سراجا يضيء دروبنا مدى الحياة.
فكما تعلمون أنّ نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، كان يلقب في شبابه وقبل البعثة بـ"الصادق الأمين"، وهنا نرى بأنّه صلوات ربي وسلامه عليه قد جمع بين طهارة اللسان بالصدق، وطهارة اليد بالأمانة، ومن خلال قصّة سيدنا موسى عليه السلام، جاءت الأمانة في مقدمة صفات المفاضلة بينه وبين غيره، ولأنّ شعيب عليه السلام كانت لديه ابنتان، ولم يكن لديه أبناء ذكور، فقد ربطت ابنته -بعدما رأت منه عندما اخترق الجموع بقوته الجسدية وسقى لهما- الأمانة بالقوة، ليشد به أزره بعد أن كبر في السن.
إنّ المراد من المعيار هو تقديم أساس موثوق للناس، لذلك كان تفكري المستمر عن المعيار الخلقي الأهم، الذي يجعل من الشخص موثوقا به أمام الله وخلقه، بغض النظر عن موقعه الاجتماعي، على المستويات المحلية، والإقليمية، والعالمية، ومع ما نراه اليوم من تطور هائل في التكنولوجيا وما يطلق عليه اليوم بالثورة الصناعية الرابعة، يجب علينا أن نتمسّك بالأخلاق حتى لا نفقد إنسانيتنا، وليس هنالك خلق أعظم عند الله تعالى من الأمانة، فسبحان الذي عرضها على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها، ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى عالمنا اليومي، يجب أن نكون أكثر إصرارا على غرس قيمة الأمانة وأهميتها أمام الخلق والخالق.

-----------------------------------------------

توقيع:
"
عيرتني بالشيب وهو وقار،،
ليتها عيرت بما هو عار.
ان تكن شابت الذوائب مني،،
فالليالي تزينها الاقمار.
دموعي بيوم فقد الولف ليلى،،
وردت عيني يمرها النوم ليله.
تعيرني عجب بالشيب ليلى،،
وأخير اثنيننا نشيب سوا"
الخليفة العباسي المستنجد بالله