المكاتب والمناصب لا تصنع القادة

د. صالح الفهدي

"المكاتب لا تصنعُ القادة" عبارة قالها الرائد التنظيري للقيادة )جون ماكسويل(، لأنَّ القيادةَ لا ترتبطُ بالمناصبِ، ولا بالسُّلطةِ، ولا بسِعَةِ المكاتبِ، أو ترفِ أَثاثها الفاخرِ، بقدرِ ارتباطها بشخصيَّةِ القائدِ الذي يصنعُ التغيير، القائد الذي يمتلكُ  الكاريزما (charisma) وهي القدرة أو المهارة التي يمتلكها القائد فيؤثِّرُ بها على قيادة الآخرين وتوجيه سلوكاتهم، وتفضيلاتهم، من أجلِ الأهداف التي رسمها، وحثَّ أتباعه على تحقيقها.

وعلى غرارِ تلك العبارة نقول إنَّ "المناصبَ لا تصنعُ وزراء" فالمناصبُ لا تصنعُ وزيراً وإنَّما يصنعُ الوزيرُ المنصبَ بما يضيفهُ هو من هيبةٍ واعتبارٍ، وجدارةٍ واقتدارٍ. ومع أنَّهُ ليس شرطاً أن يكون الوزيرُ ذا تخصِّصٍ في مجالِ وزارته، فالأمثلة الناجحةُ حاضرةٌ، إنَّما الأهم هو أن يتوفَّر في الوزير ثلاثُة خصال من وجهةِ نظري؛ أولها تمتُّعه بشخصيةٍ قيادية (الكاريزما) ذاتَ أثرْ، وثانيهما أن يتمتَّع بقدراتٍ إداريِّةٍ أساسها حُسنُ الفِكَر، وثالثهما أن يكون صاحب رؤية مستقبلية لها بُعدُ نظر. ولهذا يمكنُ معرفة شخصيَّةِ الوزيرِ من خلالِ الوزارةِ التي يترأسها مع الأخذِ في الاعتبار العوامل الخارجية التي قد تعيقُ عمله، وتقيِّدُ قدراته.

إنّ القائد الذي لا يستطيع إحداثَ التغيير لا يمكنُ أن يطلق عليه لقبَ "قائد" فالقيادة تعني قيادة الآخرين إلى تحقيق أهدافٍ يفترضُ أن تشكِّل نقلاتٍ مرحليةٍ تغيِّرُ وضعاً راهناً إلى بديلٍ أفضل عبرَ عنصرين: بشريٍّ وماديِّ. أمَّا الذين يفضِّلون "بقاء الحالِ على ما هو عليه" فأولئكَ لا يمكنُ أن يكونوا قادة، فهم ممن يخافُ على منصبهِ أن يؤول إلى غيره، وكرسيِّه أن يدورَ عنه، وهؤلاءِ عبءٌ على المؤسسة التي يتسنَّمون قيادها. ولقد وجدتُ أن بعضهم لا يستطيعُ أن يتكيَّفَ مع مسؤولياته، ولا يستطيع كبح جماح انفعالاته، فيلقون بكل خطأ على غيرهم حين يقعُ الخطأ، وينسبون النجاح حين يتحقق إلى أنفسهم، بينما القائدُ الحقيقي هو الذي يتعامل مع أيِّ خطأ يقعُ من أتباعهِ بحكمةٍ ورشد، ويعالج الأمور بحنكةٍ ورويَّة، وفي المقابل لا يجدُ غضاضةً في تبيان حقِّ المُنجزِ، والإشارةِ إلى عملِ المُبدع.

ولا يُدركُ بعض المسؤولين أن الأولوية المطلقة التي تُمنحُ للعميل قد تغيَّرت ليتبوأ الموظف مكانه، فينالُ هو الأولوية قبل العميل، إذ صار يُطلق على الموظف "العميل الداخلي internal customer" وهذا أمرٌ تفرضه البداهة، إذ كيفَ يمكن لمؤسسة أن تُرضي حاجةَ عميلٍ خارجي بواسطةٍ موظَّفٍ لم ينل الحقوق، والاهتمامات التي يستحقُّها؟! يقول (فينيت نايار) مؤلف كتاب (الموظف أولاً، العميل ثانياً):”إن المنشأة يجب أن تعطي الأهمية الأولى لموظفيها، ثم يأتي العميل على عكس الفكر التقليدي السائد"، على أننا لا نزال نسمع عبارة "العميل أولاً" متفشية في المؤسسات الخاصة تحديداً، متناسيةً أن موظفاً لا يتمتعُ بمزاجٍ مريح يمكنه أن ينفِّر المتعاملينَ معه، أولئك الذين تراهنُ المؤسسة على أنهم مصدرُ بقائها ومصيرها..!!

"المكاتب والمناصبُ لا تصنعُ قادة" لأن القائدَ ليس قطعةً من الأثاثِ كما أنَّه ليسَ مجرَّد جسدٍ يملأُ كرسيَّاً؛ وإنَّما شخصاً يتمتَّعُ بخصالٍ مميَّزةً قُدِّرَ له أن يكون في منصبٍ ما، لأسبابٍ مختلفة.

ولقد وجدتُ أن أعظم القادة هم من يسمون القادة التحويليين Transformational Leaders أولئك الذين نقلوا أوطانهم من حالةِ بؤسٍ إلى طفرةٍ من التقدِّم المهولِ في فترةٍ قياسية من الزَّمن، أو أنَّهم انتشلوا مؤسساتهم من شفيرِ الإفلاس، إلى المنافسة في المصافِ الأُولى، أُولئك القادة التحويليون يتمتَّعون بست خصال يوضِّحها د. مراد منصور كما يلي:

الرؤية: وتعني القدرة على خلق رؤية تربط الناس ببعضهم البعض، وخلق مستقبل جديد للمنشأة؛ إذ يكون لدى القائد التحويلي السبل لتحقيق الرؤية، وكيفية إشراك فريق عمله في وضعها وتنفيذها.

الشخصية والأخلاق: والشخصية تعني التمتع بصفات ملهمة يمكنها التأثير على الآخرين؛ فيكون حريصًا على الاستماع بعناية لأتباعه، وتوفير الدعم المتواصل لهم، كما يتمتع بأخلاق رفيعة، ويكون مرنًا ومنفتحًا على النقد، علاوة على قدرته على اكتشاف قادة آخرين يدعم وصولهم إلى المراكز الأمامية في المؤسسة.

المسؤولية: يتحلَّى القائد التحويلي بالصدق حتى تحت الضغط، ويلتزم بالحفاظ على الالتزامات، ويظهر الثقة في أتباعه من خلال تمكينهم في وظائفهم، وتفويض صلاحياته للآخرين، ويشجع التواصل في الاتجاهين الأفقي والعمودي.

عمق التفكير: يشجِّع أتباعه على الابتكار، ويشجع التفكير الإيجابي، ويحتضن المخاطر استنادًا إلى التحليل المدروس للأوضاع والمناقشة، وطرح الأسئلة والفرضيات والتركيز على "ماذا" و"لماذا" بدلًا من "من الذي".

احترام مشاعر الغير: من أولويات قائد التحول الاهتمام بحاجات الآخرين والاستماع لمشاغلهم، وتحمل المسؤولية وعدم تحميل أخطائه على الآخرين، فلا يبحث عن كبش فداء لأخطائه، وكذلك يحترم ويقدِّر قيمة إنجازات موظفيه.

الثقة في النفس: يظهر القائد التفاؤل، ويكون متحمسًا للرؤية المستقبلية للمنشأة، ومتواضعًا، ويضع الثقة في أتباعه.

نعودُ مؤكِّدين مقولة ماكسويل بأنَّ المكاتب لا تصنع قادة، ومقولتنا بأنّ المناصبَ لا تصنعُ قادة، وإنَّما هناكَ من الخصالِ التي تصنعهم، ولا يمكنُ الاعتدادَ بهم كقادة طالما أنهم يفتقدون إلى أيِّ رصيدٍ من الإنجاز المشهود، فإذا كانت الجعجعة لا تنتجُ طحيناً فإنَّ بعض من يحسبون أنَّهم قادة هم أشبهُ بالعربات الفارغة التي تصدرُ ضجيجاً، فلا تلمسُ لهم إنجازاً، ولا تشهدُ لهم إحرازاً، وإنَّما كلَّ ما يثيرونه مجرَّد زوبعةٍ في فنجان، تتقصَّدُ الشُّهرةَ والمباهاة...!

القيادةُ اتزانٌ في الشَّخصيةِ، وسموٌّ في النظرةِ، وبعدٌ في الرؤيةِ، وحكمةٌ في الرأي، وسدادٌ في القرارِ، ورفعةٌ في الخلقِ، ورجاحةٌ في العقل، وأناةٌ في الأمرِ، وألمعيةِ في الفكر، ونزاهةٍ في الضمير، وما لم يكن القائد مالكاً لهذه المِنح والمواهب فهو متعدٍّ على القيادة، جائرٍ على لقبها، ليس له من حظِّها نصيب، ولا ارتباطَ يُعزيهِ إليها، أمَّا مالكوها فهم الأنجمُ النيِّرةِ لأممهم، والبدور الزواهرُ لأوطانهم، تزدهرُ بهم المجتمعات، وتنتعشُ بها التنميات، عطاؤهم زاخرْ، وأداؤهم باهرْ.. هؤلاءِ هم القادةُ الحقيقيون الذي استحقوا ألقابهم عن كفاءةٍ وجدارة.