المعرفة أولا كمَسَار وليس استهلاكا!

عبدالله العليان

يروي الأديب والشاعر السعودي غازي القصيبي، عن بعض لقاءاته وحواراته مع بعض السياسيين، في كتابه "الوزير المرافق"، كيف أن رئيسة وزراء الهند السابقة أنديرا غاندي عندما التقاها في إحدى المناسبات، كانت مُتذمرة مما تكتبه الصحافة الهندية عن الوضع في الداخل، وظروفه الراهنة آنذاك من تراجع علمي وتقني تعيشه الهند، مقارنة مع دول أخرى في أوروبا وآسيا أصبحت ناهضة ومتقدمة على كل المستويات، لكن هذا الوضع بالنسبة للهند قد تقّلص تماماً، والآن تعتبر من الدول المتقدمة في العلوم الحديثة، ونحن العرب والمسلمين، لا نزال عالة على الشرق والغرب في الاستهلاك، وليس هذا فحسب، بل أصبحنا نتصارع فيما بيننا، ونتقاتل على أتفه الأسباب، ونكِيد لبعض بعضاً، والعالم يتفرَّج علينا بأسى واستغراب، مع أننا نملك الكثير من القدرات والإمكانيات للخروج من هذا الوضع، لو قدمنا مصلحة أوطاننا.

ويروى د. عبدالكريم بكار في كتابه "حول التربية والتعليم"، عن هذه القضية الشائكة لوضعنا الراهن، وتراجُعنا في المجال المعرفي والعلمي، فيقول: "إنَّ الحضارة الغربية الحديثة التي أنتجت الملايين من المواد والآلات، قد بنيت على كواهل رجال، لم يكونوا يعرفون سوى العمل، وإن ما تم اختراعه من وسائل وآلات قد سهل الحياة، وقلل من المجهود العضلي لكل واحد منا، لكن ما بذل من تفكير وتجارب في سبيل الوصول إلى ذلك شيء يفوق الوصف! إن مشكلتنا الأساسية لا تكمن في الطاقة التي نمتلكها، فالطاقات وزعت على البشر على نحو متقارب، لكن المشكلة أننا لا نريد أن نعمل. إنه حين تتوافر القدرة لدينا، ثم لا تعمل فمعنى أننا نفتقد "الإرادة" كما قال الله تعالى: "ولو أردوا الخروج لأعدُوا له عدة".

والإشكاليَّة كما يراها د. بكار، أننا لا نصبر على النجاح، أو أننا نريد نسرع في تحقيق الانجاز، حتى وإن كانت الطبخة غير مستوية بشكل كامل؛ لذلك النجاحات التي نريدها أن تتحقق لا تستجيب لما قدمناه، وهذا هو السبب للكثير من الإخفاقات، إلى جانب أسباب أخرى، ليست هي مجال حديثنا؛ فالقَدر المتين أنه تسري في "أوساطنا حمى تجتاح الصغار والكبار، هي حمى الإنجاز السريع، وجمع الغنائم دون أن نبذل الجهد المطلوب، وهذا قاد إلى مزالق ظاهرة (الغش) في المدارس والجامعات -في بعض أوطاننا العربية- ولا يغيب عن البال أن كل منتج -مهما كان نوعه- ستكون جودته على مقدار ما بُذل فيه من جهد وساعات عمل وفكر وتأمل، وأن علينا أن نعود الناشئة مكابدة المشاق، والمران على طول النفس، والصبر على العمل المتواصل، وإلا فإن العواقب وخيمة.

كما أن الأمر لا يكون إن كل يخدم ذاته فقط، ولا يرى في العمل الجماعي حاجة وضرورة، لا.. فهذا لا يعطي المجتمعات النجاح الذي نتوخاه، ولا يحقق الروح الوطنية التي هي قوام النهوض والإصلاح الذي سعت إليه الكثير من الشعوب والأمم الأخرى، فقوة المعارف والنهوض العلمي والتقني، ليس عملا فردياً فقط، بل هو محصّلة عمل جماعي متراكم من رؤى وأفكار وعقول تبحث وتنقّب بصبر وتحمّل، فـ"المجتمع الذي يهتم أفراده بشأنه الخاص دون إعارة الانتباه إلى شؤونه العامة ليس بمجتمع، وسيستحق هذا الحشد اسم المجتمع على مقدار ما يتوافر لديه من مؤسسات ومبادرات فردية، همُّها الحفاظ عليه وصيانته، كأن المرء لا يستطيع أن يحافظ على الخير في نفسه وأسرته ما لم يصبح نفعه متعدياً إلى غيره، ولا أظن -كما يرى د.بكار- أن إطلاق الشعارات سيكون مجدياً فيما يخدم الحياة العامة على المستوى الخلقي والاجتماعي والمادي".

من هذه المنطلقات في تحقيق منجزات ونهوض معرفي وعلمي، لا بد من إرساء فكرة النقد الذاتي، وإشاعة القبول بالتعدد في الرؤى والأفكار، لما هو أجدى في النفع العام، وهذا النقد والمراجعة يسهم في تجنب السلبيات والعثرات في إقامة المنجز وبنائه بالصورة السليمة، فـ"المستقر لدى البشرية جمعاء أن الإنسان أعجز من أن يُدرك الحقائق دفعة واحدة، وإنما على سبيل التدرج. وهو إلى جانب هذا لا يعرف مآلات أعماله وعواقبها؛ كما أنه كثيراً ما يعمل أعمالاً تخالف معتقداته ومبادئه وفكره، تحت ضغوط هوى أو شهوة أو مطمع، وهذا كله يجعل موضوع المراجعة شيئاً جوهريًّا لكل جوانب الحياة".

لذلك، وكما يضيف د.عبد الكريم بكار، فإنَّ المراجعة لكل نشاط إنساني لها من الإيجابيات الكثيرة والكبيرة؛ لأنَّ هذا النقد أو المراجعة تعني التدقيق فيما نُرِيد تحقيقه من منجزات، وهذا ما فعلته الكثير من الثقافات والحضارات، ومنها حضاراتنا الإسلامية عند انطلاقتها، وعندما تخلينا عن هذا المنهج تراجعنا وتخلفنا عن الركب: "إن المراجعة تعني تعريض النفس والفعل والموقف لنور البصيرة، كيما يجري التقويم، واستدراك ما يمكن استدراكه من القصور، والكف عن المتابعة في طريق العماية، كما يفعل الطبيب حين يشق ما التأم من جروح على فساد وزغل من أجل تعريضه للشمس والهواء. وهذه العملية على ما فيها من ألم، هي أول الطريق لإيقاف التدهور".

والأساس المهم الذي يحقق لنا ما نسعى إليه أن نغرس في الأبناء روح النقد وروح المثابرة في التنقيب عن المعارف، ونفتح للأبناء الأبواب الموصلة للجهد العلمي والمعرفي الرزين، وهذا هو السبيل الذي نلحق به بالركب، ونستعيد من خسرناه في القرنين الماضيين، وبـ"العقل المفتوح الذي نريد أن يتمتع به أبناؤنا وطلابنا، لا يتقبل الجديد فحسب، ولكن يبحث عنه، ويطوق إليه، وذلك يحدث حين نقدم له المعرفة بطريقة مرنة، تساق فيها الحقائق والمعلومات على نحو يسمح بالمراجعة والاستزادة، ويثير التساؤل. وسيكوِّن المربي المرونة والانفتاح الذهني حين يحرص على نوعية الأسلوب الذي يتبعه في إيصال الحقائق إلى الطفل أو الفتى، كأن يقول: معلوماتي حول هذه المسألة هي كذا، أو هي ظنية، أو غير مكتملة، إن العلم يثير التساؤلات، يوجد من الفجوات على مقدار ما يوفر من الأجوبة والحقائق، وعلينا أن نعلِّم هذا لمن نربيهم بوضوح". وهذه هي أول خطوة على الطريق الصحيح لتحقيق الهدف المنشود.