مراجعات

د. صالح الفهدي

لا أفتأ أذكر مقولة العلامة عبدالله العلايلي "ليس محافظةً التقليدُ مع الخطأ، وليس خروجًا التصحيحُ الذي يُحقق المعرفة"، وهي مقولة يمكن إسقاطها على العمل الإنساني برمته؛ العمل الذي يشوبه النقص، ويعتريه الخلل، ويحتاج مراجعات آناً بعد آن لتصحيح وجهته، وإصلاح اعوجاجه ليمضي إلى الهدف المرسوم المنشود.

ليس صحيحًا أن يقال "ليس في الإمكان أبدع مما كان"؛ لأنَّ مقولةً كهذه تحرم العقل الإنساني من اجتراح آفاق التفكير في عوالم أكثر إبداعاً؛ إذ لا يوجد عمل إنساني يصل إلى الكمال ولا يمكن أن يوجد، وما تلك المقولة إلا إغلاق للعقل، وتقييد للفكر من حرية الانطلاق لكشوفات وتجليات حديثة.

إنَّ إحدى المشكلات الكبرى التي قد تقع فيها بعض الدول هي بقاء الحال على ما هي عليه أمداً طويلاً، رغم ما قد يشوب هذه الحال من معضلات معيقة، أو مشكلات مثبطة، لا يمكن -في ظل وجودها- أن تتحرك المصالح، وتتحقق المطامح.

ويُنبئ التاريخ بأمم أصابها الجمود في حراكها، فأثقل حركتها، ولم تعمد إلى مراجعة حالها، فإذا بها وقد وجدت أقدامها وهي تغوص في أرضٍ قَرْعَاء مُوحِلة لا تعرف فيها طريقاً للنجاة، ولا وسيلةً للخروج.

على أنَّ التاريخ أيضاً لا يبخل علينا في المقابل بنماذج مشرقة من دول معاصرة وقفت ذات أزمة، في مُنعطف تاريخي ما لتراجع نفسها مراجعةً شاملةً، ولتقرر المسار الصحيح الذي يجب عليها أن تسلكه، مُستمدةً من قواها المعنوية التي ورثتها طاقةً دافعةً لها، ومستلهمةً من تجارب الدول التي تقدمتها دروساً تساعدها على تصحيح مسارها، وتعديل اتجاهها، على أنَّ استلهام الدروس من الآخرين، وإن كان مهمًّا للمساعدة على حل معضلة ما قامت بحلها دولة أخرى، فإنَّ الأمر لا يبدو على صيغة "نسخ ولصق"؛ فالتطبيق هو العقبة الكأداء في الواقع، يقول كيشور محبوباني عميد كلية لي كوان يو للسياسة العامة بجامعة سنغافورة الوطنية: قال لي الدكتور جوه كنج سوي: كيشور، مهما كانت المشكلة التي تواجه سنغافورة، فإن شخصاً ما أو مكانا ما قد يقوم بحلها. دعونا ننسخ الحل ونكيفه في سنغافورة. إن نسخ أفضل الممارسات أمر يمكن لأي بلد القيام به. ومع ذلك فإن التنفيذ "بأمانة" هو أصعب شيء يمكن القيام به. الفساد وحده هو أكبر سبب وراء فشل معظم دول العالم الثالث. وقد كانت القوة الأكبر للآباء المؤسسين في سنغافورة تكمن في أنهم كانوا صادقين تماما. وساعدهم أيضا تمتعهم بالدهاء والذكاء بشكل غير عادي".

إن قيمة المراجعة في الأسس السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإدارية، والثقافية وغيرها، قيمة لا يجادل فيها عاقلان؛ لأن العالم في تطور مضطرد، وتغير مستمر، فهو أشبه بالبحر متلاطم الأمواج، متلاحق العواصف، لا تُعرف درجة أرزائه، ولا سِعة مداه، وشدة قوته، وهنا تتضح مهارة القادة في القدرة على إحداث التغيير بصورة حاذقة، واثقة.

ومن نافلة القول أنَّ الدول تمر بمراحل ازدهار أو كساد بحكم ارتباطها بمنظومة الاقتصاد العالمي، ومجريات السياسة العالمية؛ الأمر الذي يُحتِّم التكيُّف مع مقتضياتها دون فقدان الأسس التي قامت عليها في منشأها، وفي أس قيمها التاريخية.

وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ المراجعات تقتضي النظر في الثقافة التي تسود المجتمع، ومدى تطابق هذه الثقافة مع التقدُّم العصري الذي يسوده العلم، دون فقدان التمحور حول جوهر الشخصية التاريخية للمجتمع، هذا ما فعلته اليابان في عودتها للأخلاقيات اليابانية في فترة إيدو (القرن السابع عشر)، مع التزامها بالقيم العصرية التي يأتي الانضباط والالتزام والجودة على رأسها. الثقافة المجتمعية بحاجة إلى مراجعة لأن أفكار الإنسان هي أساس البناء المجتمعي، وما لم تكن هذه الأفكار إبداعية خلاقة فلن يتقدم المجتمع، ولن يكون له شأن يُذكر بين الأمم التي تتنافس في تقدمها، وفي صناعتها، وفي سِباقها على المراكز التنافسية المتميزة، وأصدق ميدان للمراجعة الثقافية هو التعليم والإعلام والمؤسسات الثقافية.

شكلُ الحكومات وهياكلها التنظيمية هي الأخرى بحاجة لمراجعة؛ إذ إن بقاء المؤسسات الحكومية على حالها دون تغيير هيكلي، ودون تغيير في النظم والقوانين والتشريعات التي تعمل عليها، أمر لا يجوز إغفاله؛ لأن الحكومات هي زِمام إدارة الدول، فإن كانت على قدر الكفاءة في الإدارة استطاعت أن تتقدَّم بدولها إلى مصاف الدول المتقدمة، وإن هي أخفقتْ فإن انعكاسات ذلك ستكون وخيمة على الدول، يقول الشيخ محمد بن راشد: "لا توجد أزمة طاقة.. ولا أزمة تعليم.. ولا أزمة صحة في منطقتنا العربية، لدينا أزمة إدارة". ويضيف: "نحن أمة تملك موارد عظيمة.. وتضم كفاءات عظيمة.. لكننا نفتقد من يدير الموارد والكفاءات لصناعة أمة عظيمة". وتستلزم مراجعة الحكومات الحاجة إلى الهياكل الحالية للمؤسسات القائمة، والحاجة إلى وجود مؤسسات بعينها لاستنزافها موارد من الأجدى توجيهها إلى مشاريع وطنية أخرى، أو تحويلها إلى الصناديق السيادية، كما تتطلب المراجعة النظر في القوانين والتشريعات الخاصة بإنجاز المصالح، وتنظيم آليات العمل، والمراقبة، والمساءلة.

فإن أقدمت كل دولة في كل مرحلة من مراحلها التاريخية على تبني أعظم مراجعتين؛ هما: سياستها في بناء الإنسان، وسياستها في إدارة شؤون أوطانها، كان ذلك كافياً لتصحيح مساراتها، وتعديل توجهاتها، بيد أنَّ ذلك يتطلب وجود أهداف عظمى للدولة، وتحديد الخطط الإستراتيجية لتحقيق هذه الأهداف، ووضع أهل الكفاءات في مواضعهم الملائمة لقيادة زمام الأمر فيها، واتباع سياسة واضحة في صناعة الإنسان، وإنتاج ثقافة مجتمعية تتوافق مع تلك السياسات الواعدة لصنع مستقبل أكثر إشراقاً.