حينما تتسامى العقول

عباس المسكري

لا شك أن الفكر قد يكون معولا للبناء أو الهدم وقد يكون وسيلة للسلم والأستقرار أو للحروب والدمار، وليس بخافيا عليكم ما نراه في الأخبار عن الصراعات الدائرة في أركان عالمنا العربي وما تحمل في طياتها من مسميات قومية وطائفية وتبعية ومذهبية، وكل ذلك نتاج للفكر البشري وما آلت إليه عقول البعض ممن يدعون إلى هدم الكيان العربي الذي هم جزء منه ولكن أفكارهم ومعتقداتهم صورت لهم أنهم الصفوة من البشر وعلى الجميع اتباعهم مهما كانت أفكار ومعتقدات الآخر، ومن لا يوافقهم الرأي والفكر، فهو من المغضوب عليهم والضالين.

لقد مرَّ عالمنا العربي عبر مراحل مختلفة من الصراعات الدموية والانقسامات الفكرية، وتشكلت جراء ذلك تكتلات حزبية وعقائدية قسمت المجتمع العربي إلى فرق متصارعة متناحرة إلى يومنا هذا، ويعلم الله إلى متى، ولكن يبقى دائماً الأمل في الله وثم في ذوي الأفكار النيرة التي تسعى من أجل البناء ولم الشمل غير مبالين بكافة المعتقدات الفكرية، بل تدعو إلى التقارب والتعايش السلمي الذي يوحد الصف العربي والمسلم، ولن أذهب بعيدا لأضرب مثالا يجب أن يحتذى به؛ فالنهج الذي اتبعه حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- وبفكره السديد الداعي دائماً للسلام خير مثال لذلك، وليس بخافٍ على الجميع دوره الملموس في لم الشمل العربي والعالمي، وما قام به من دور عظيم في العديد من القضايا العالمية والإقليمية، وليس بخافٍ على أحد دوره العظيم في تقريب وجهات النظر في الحوار الدائر بين إيران ومجموعة 5+1، وما له من أثر كبير للتوصل إلى اتفاقات جنَّبت الشرق الأوساط ويلات الحروب التي كانت ستؤدي لعواقب وخيمة ومشاكل قد تعصف بعالمنا العربي، وتزيد الشرخ العربي والإسلامي.

إنَّ الفكرَ القابوسيَّ نشأ وتربَّى على مبدأ "إن لم تنفع فلا تضر"، ومنذ الوهلة الأولى لتسلمه مقاليد الحكم في البلاد كان ملمًّا بما يدور من صراعات وما يعصف بالكيان العالمي من خلافات كانت سببا في زعزعة أمن واستقرار دول كثيرة؛ أهمها دول الشرق الأوسط والمجتمع العربي؛ لهذا أرسى أسس السلام والاستقرار الداخلي للسلطنة من خلال زرع الألفة والمحبة والقيم والمبادئ التي يتعايش من خلالها كافة أطياف المجتمع العماني، ثم آمن إيمانا عميقا بأنَّ التدخل في شؤون الغير سوف ينتج عنه تدخل في شأن عمان الداخلي، وهذا ما أنتهجه من فكر لكي يجنب عُمان والشعب العماني صراعات قد تشتته وتفرق وحدته، لذا كان حريصا على أن يعيش المجتمع العماني التعايش الإسلامي الحنيف من حيث لا مذهبية ولا طائفية ومن حيث الوطن للجميع.

جلالته -حفظه الله- كان يعلم يقينا أنَّ الصراع العالمي هو صراع القيم والمبادئ والفكر ما بين الطائفية المقيتة المذهبية العفنة التي تدمر وتفرق وتشتت، وما بين التسامح الديني الذي يدعو للتقارب ولم الشمل، بل هو الصراع الخفي بين الحب الذي يولد الألفة والطمأنينة، وبين الكراهية التي تدعو للشتات، إنه صراع بين السلم والسلام والسكينة من جهة، وبين الحرب الذي لا يأتي منها إلا الدمار والخراب والهلاك من جهة أخرى.

إنَّ الفكر القابوسي مبنيٌّ على الإيمان القوي المحب للخير للجميع، الإيمان المستمد من كتاب الله وسنة نبيه والسيرة الحسنة؛ فالإيمان الحقيقي هو العلاقة السامية بين الإنسان وربه، هو العلاقة التي تنير بصيرته وقلبه وجوارحه، مما يجعله مدركا وعارفا للقيمة الحقيقية لمعنى التعايش السلمي وقيمة العلاقات التي تربطه بالآخرين، ففكر جلالته فكر مبني على التسامح الإسلامي للدين الحنيف، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده وحتى فكره؛ لهذا هنالك فارق كبير بين المؤمن والمسلم، وهذا ما يجعل معنى مؤمن بعيدا كل البعد عن معنى مسلم؛ فالمؤمن يؤمن إيمانا قطعيا بوحدانية الله، ويأتمر بما أمر وينتهي عمَّا نهى.

ومن بين هذا كله، وبعيدا عن اصطناع الخيبات والدخول في مهاميز المهاترات، ولأجل الرجوع لمنطق العقل السليم والرؤية الثاقبة التي تُفند بين الغث والسمين، نتوقف قليلا ليس من أجل شيء، إنما لتأكيد مدى أهمية الوفاق والتقارب الذي يحفظ منطقتنا الإقليمية، وينأى بها عن كافة الصراعات التي تبيح للقوى والكيانات الهادفة زعزعة أمنه وديمومة استقراره، وذلك من خلال إعادة الوحدة الخليجية وإرساء مبادئ اللحمة التي تقوض كافة الخلافات والمشاحنات التي تستوطن بعض العقول التي تنقصها النظرة المستقبلية والعميقة وتفتقر لمفهوم السياسة بجميع أدواتها وأبجدياتها التي تُحتم على كل سياسي -سواء كان يقود مجموعة أو فرقة أو دولة- أن يتعايش تحت ظلالها شعوب وأعراق تتطلع للأمن والأمان، وتسعى للحيلولة دون إفراط وتفريط في جعل حياتها وحياة أبنائها وأجيالها المستقبلية مهددة بعدم الاستقرار.

فمصالح الشعوب بغض النظر عن اقترافات الساسة من أخطاء تسعى لتبادل المصالح المشتركة على جميع الأصعدة: اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، وإن فرض عصى الطاعة لشق صفوف هذه الوحدة تحت الأفكار السياسية، سيما الصبيانية التي تجعل من المراهقات السياسية سببا لإشعال وإذكاء فتيل الصراعات والحروب في هذ المنطقة التي حباها الله بما لم يهب غيرها من خيرات، ناهيكم عن الأماكن المقدسة التي تعتبر قبلة الإسلام والمسلمين من شتى بقاع الأرض. فمن المؤسف جدا أن تنهج بعض القيادات التي تنقصها النظرة العميقة والحصافة السياسية في جعل يدها بيد من يبتغي تمزيق المنطقة واجتثاث منابع خيراتها وزعزعة أمنها واستقرارها، وهو لا يعي ولا يدرك فداحة الأخطاء التي يقترفها، ولن نذهب بعيدا؛ فالأحداث التي كادت توقف الدماء في عروق كل خليجي ما لو اشتعل فتيل الحرب الذي كان قاب قوسين أن يشتعل، وهنا أعود لما بدأت به، وقبل أن أستبق الأحداث، وأعرج على إرهاصات صفقة القرن، أؤكد أننا كشعوب خليحية في أمس الحاجة للتآخي والتسامح والتعاضد من أعلى قمة الهرم إلى قاعدته لتنعم هذه المنطقة باستقرار دائم يستحق أولا وأخيرا الحمد والثناء على ما حبانا الله بها من نعمة... وللحديث بقية.

تعليق عبر الفيس بوك