د. عبدالله باحجاج
ماذا أفعل بثلاثة من أولادي يقبعون على قائمة الباحثين عن عمل منذ سنوات، وتقاعدي القانوني في الأجل القريب؟.. تساؤل آلمني كثيرا من ولي أمر هؤلاء الباحثين عن عمل، ورد ضمن سياقات رسالة نصية طويلة، وقد حمَّلني مسؤولية البحث لهم، أو على الأقل لواحد منهم، عن فرصة عمل، وليلة أمس الأول بَعث لي برسالة نصية اعتقادًا منه بتجاهلي لقضيته، أنقل منها العبارة التالية: "ما زلت منتظر ردك على آحر من الجمر، ومتلهِّف بشغف لسماع رنة الهاتف، لكن الظاهر لا حس ولا خبر".
قضيَّة تحملُ صفتيْن مزدوجتيْن تتداخلان مع بعضهما البعض؛ الأولى إنسانية؛ كون ولي الأمر سيُحال للتعاقد في الأجل المنظور، وهذا يعني أنَّ مُرتَّبه سيهبط إلى أكثر من النصف، وهُنا بُعد سيكولوجي مُقدَّر بعمق، ولنا تصوُّره قبل تقاعده وبعده، فكيف بعد تقاعده؟ فكَم سيتحمَّل هذا الراتب المسكين من تبعات والتزامات من كل الجهات؟ ومع هذا لا يتأتى التقدير إلا لمتعاطي الكحول ومورِّديه عبر تخفيض ضريبته من 100% إلى 50%، بقرار لا يزال يثير الجدل في توقيته وفي تقدير أسبابه.
والثانية: اجتماعية؛ كون هذه القضية يعاني منها كل بيت عُماني، ولها تداعيات على معيشة الأسر، وقيم الكثير من الشباب، وقد تحدَّثنا في مقالات سابقة عن الانتشار السنوي المخيف للمخدرات وبالذات القات، وكل يَوم انتظار للوظيفة، يعني المزيد من الآلام الاجتماعية وسقوط ضحايا جُدد، وكل حالة يأس تتعمَّق في بنيات الأسر، ستجد التعاطف الاجتماعي مع كلِّ منحنى يظهر فوق السطح؛ لأنَّ هناك حالة تعب وإرهاق كبيرة تصيب الأسر، وتترسَّخ أفقيا ورأسيًّا في المجتمع من قضايا الباحثين والضرائب والرسوم ورفع الدعم عن الخدمات ومجانيتها.
ومُطالبة ولي الأمر لي بالوقوف معه، هذا شرف وتشريف لي، وهى ليست الحالة الوحيدة من أولياء الأمور في أفضل حُسن ظن منهم بي؛ اعتقادا منهم أنَّني أملك القدرة على اختراق حُجب المسؤولين، أو أنهم يتمسَّكون بأي أمل لعل وعسى يُخفِّف عنهم يومًا من الضغوطات النفسية، وكم حالة أتيت بها إلى مدير عام القوى العاملة بظفار، ويدق صدره بعد تفهمه لملفات حالاتهم، لكن سرعان ما يذوب أمل دق الصدر، ويحل محله اليأس سريعا، ومثله الكثير من المسؤولين الإقليميين العموميين والخاصين.
لن أقبل منك "أي عُذر" في عدم الحصول ولو على وظيفة واحدة لأحد أبنائي، هذه فقرة وردت في رسالة ولي الأمر، وفيها من الأثقال السيكولوجية ما لا يتحملها جبل، فكيف لمثلي يتحملها ثانية، وتطاردُني في كل اهتماماتي ولقاءاتي، لكن كل مسؤول قد أصبح متشبعًا بمثل هذه القضايا أو لديه حصانة التجرُّد من أية تعاطف مع حمولتها الإنسانية، والرواحي شاهد على ذلك؟ فقد أتينا له ببعض الباحثين أصحاب الظروف الخاصة كشابٍّ قاربَ على سن الـ40 وهو باحثٌ عن عمل، والآن تمر سنة كاملة، وقد يَأِس هذا الشاب حتى من الاتصال بي.
ندعُو إلى معايشة حالة ولي أمر ثلاثة باحثين عن عمل كنموذج لقضية الباحثين في بلادنا، ثلاثة من أبنائه تحوَّل ليلهم إلى نهار.. مُعطَّلة قدراتهم، يخاف عليهم حتى من نومهم، ويستنزفون يوميا مصروفاتهم من راتبه المحدود جدًّا، يُقدِّم مصروفهم على أساسيات حياته، خوفه من سقوطهم في الفخاخ المنصوبة للشباب تحت ضغوطات حاجتهم اليومية، حتى دَخْل "التاكسي" قد أصابه الكساد بعد دُخول شركة مواصلات الجديدة كمنافس لأصحاب هذه المهنة، تخيَّل هذا السيناريو أيها القارئ أنك تعيشه.. كيف ستكون سيكولوجيتك؟ ابن واحد باحث عن عمل أو باحث عن تعليم يقصم الظهر.. فكيف بثلاثة أبناء؟!!
قضية تُؤرقني كثيرًا كلما أُعمِل الفكر الإنساني بمثل هذه القضايا، قضية تُعيد الاهتمام الآني المتجدِّد بقضية الباحثين عن عمل؛ فمثل هذه الحالة هناك الآلاف منها، الكثيرُ منها يصرُخ في صمت، ويغرق في الظلام بتداعيات مختلفة، والكثير منها وصل حدَّ اليأس والإحباط، والكل يُشكلون بمثابة سلسلة تترابط حلقاتها وتنتج تداعيات على الباحثين وأولياء أمورهم، وتفقد الباحث السيطرة على مصيره، وتُدخل ولي أمره في قهر وإحباط نفسي ويأس، فكيف إذا تقاطع هذا اليأس مع عجز مماثل عن تأمين أساسيات المعيشة لأسرته؟!!
هل لدى الإدراك السياسي في بلادنا العلم بأنَّ هناك أولياء أمور يعملون في القطاع الخاص، ولم يتقاضوا رواتبهم الشهرية حتى الآن، وآخرون يتلقون ما بين نصف أو أقل منه قليلا؟ نعلم ذلك، ونعرف أن البعض قد مس حياءه وهو في شهر رمضان الأخير عبر الوقوف معه من أقرباء؛ نتيجة عدم استلام راتبه منذ شهور، وافتحوا الخيال والتصوُّر.. لتأثير هذا العجز المالي على الأبناء سواء كباحثين أو في مقاعد الدراسة!!
ننقلُ مثل هذه الصور بصوت مرتفع حتى نرسم خارطة عامة بالإنسانية المقهورة الناجمة عن تعقيدات المرحلة الراهنة، وحالة الثقل الكبيرة للباحثين عن عمل، ومع هذا يأتي التقدير للكحول فقط وليس للقمة العيش، وبأسباب غير مقنعة، ولن تكون مقنعة، ونعتبرها مخالفة للتوجيهات السامية، فالتوجيه لا يلغيه إلا توجيه.. وليس قرارا.. حسب تدرُّج القوانين من السُّلَط.
وفي أثناء عمليات بحثنا السابقة، اكتشفنا الانحيازية والأنانية والتعاطف من قبل كبار المسؤولين في القطاعين العام والخاص (لا نُعمِّم) مع "ذوات" من الباحثين لاعتبارات كثيرة، وهذا ما يزيد الآلام والتعاطف مع مثل هذه القضايا التي لا صَوْت لها؛ فمن لا يملك درجة القُربى والواسطة والمحسوبية، عليه الانتظار طويلا في قائمة الباحثين عن عمل.
ومثل هؤلاء الباحثين وأولياء أمورهم، قد راهنوا كثيرا وطويلا على توجُّهات الدولة الجديدة، الكامنة في إقامة المركز الوطني للتشغيل، لكنهم سرعان ما عَاد لهم الإرهاق النفسي والتعب المالي، بحيث ظهر هذا المشهد، وكأنهم انطلقوا من سباق ماراثوني طويل، لا يزالون فيه يترقبون بكل عناء الوصول لنهايته، ويعقتدون بالمركز أنهم وصلوا، لكنهم لم يصلوا.
لأنَّ الرهان على المركز يحتاج سنتين؛ فقد خُطِّط له أن يبدأ العمل في العام 2020، وهو الآن في طور تشكيل أطره ومهامه ولجانه.. لكن هذه فترة زمنية طويلة جدًّا، وثقيلة جدًّا على الباحثين عن عمل وأولياء أمورهم، وهى فترة يُعمل فيها باجتهادات ونفسيات المسؤولية المتعددة التي لا تتحمل مسؤولية النتائج السلبية، ولا تُكافَأ على الإيجابية؛ لأنها تعمل داخل الفترة الانتقائية.
ومهما كانت مشروعية هذه الفترة الزمنية الطويلة للمركز؛ فكان لابد من آلية جديدة تنبُع من روح المركز وغايته حتى موعد استحقاقه الزمني، عِوَضًا عن ترك المسؤولية ملقاة على الأطر والكوادر السابقة التي أنتجت الفشل، وقد يُقال إن كلها أو معظمها ستكون ضمن منظومة المركز، ومهما يكن لكنها تفتقد الآن لعنصر الإنجاز الشخصي والمؤسساتي، وكذلك القيادة التي سيكون شغلها الشاغل صناعة النجاح.
ليس أمامي من خيار سوى العودة للرواحي مجددا، وكذلك بقية المسؤولين الذين بإمكانهم حل مثل هذه القضايا الصغيرة، هي صغيرة بحُكم أنَّ طموح هؤلاء الباحثين يكمُن في فرصة عمل بالدبلوم العام "الثانوية العامة" وهى من السهولة بمكان، ويمكن استيعابهم في المشاريع الكبرى كالمطارات والموانئ البحرية والمناطق الحرة وعُمانتل والشركات المحلية والأجنبية الكبيرة.. لو توافرت إرادة التعمين والإحلال وحل مشاكل مثل هؤلاء الباحثين عن عمل؛ فقضايا مثل هؤلاء الباحثين أصحاب الظروف الخاصة والاستثنائية ينبغي التعاطف معها، والتحرُّك من أجلها، لأنها قضايا لا تُؤجَّل، وإنما هي عاجلة وعاجلة جدًّا.. والله المستعان.