"استثناء الخمور".. القرار والتراجع والدرس

 

مسعود الحمداني

بعد أقل من أربع وعشرين ساعة من فرض القيمة المضافة (الضريبة) على السلع الانتقائية المُضرة بصحة الإنسان، تراجعت وزارة المالية عن قرارها، واستثنت المشروبات الكحولية (الخمور) من تلك الضريبة، وخفضت نسبة الزيادة إلى 50%، بحجة أنَّ ذلك سيضر بالسياحة، وسيعمل على زيادة التهرّب الضريبي، بينما أبقت على بقية الضرائب على السلع المشمولة في القرار الوزاري!

ولعل ذلك التراجع يُظهر جزءًا من الإجراءات والقرارات غير المدروسة بشكل واقعي وعميق من قبل المختصين في بعض الجهات الحكومية، وسباقها المتسارع لفرض الضرائب إنقاذا لميزانية الدولة، ورمي الكرة في ملعب المستهلك ليتحمل العبء الأكبر من تلك المشكلة، وليس كما يبرره المسؤولون بالخوف على الصحة العامة، والتي لم ينتبهوا لها إلا بعد سنوات طوال من (التعايش) مع تلك السلع، و(التأقلم) مع مضارها، بل وتشجيعها رسمياً أحياناً.

وما زاد الطين بلّة أن تصريحاً من وزارة المالية أشار إلى أنه بعد ستة أشهر ستعود الضريبة على المشروبات الكحولية إلى نسبتها المُقررة في القرار وهي 100%، مما يؤكد أنَّ المسألة لا تختص بالسياحة، لأن السيّاح لن يغيروا أنماط استهلاكهم خلال أشهر معدودة، ويبيّن انقساما في اتخاذ القرار، وعدم دراسته بشكل كافٍ، ولو أن الوزارة أجّلت الضريبة على كل السلع الواردة في القرار الوزاري، لكان ذلك مقبولاً لدى الرأي العام، وأخف وطأ، وأكثر إقناعًا وواقعية للشارع، أما أن تستثنى سلعة وحيدة- عليها الكثير من الجدل الاجتماعي- فذلك ما أثار حفيظة الناس، واستنكارهم، وغضبهم، وظهرت تغريدات تنتقد التراجع الاستثنائي لضريبة الخمور دون غيرها.. وتشكك في نيّة الوزارة فرض ضريبة عليها أصلاً.

إنَّ فرض ضريبة انتقائية على السلع الضارة بصحة الإنسان قرار مهم، قد يحد من الأضرار الصحية والاجتماعية الناتجة عن تلك السلع، رغم أنَّ المستهلك هو من سيتحمّل تلك الزيادة، وليس المصدر والمستورد، وهي في نفس الوقت بالون اختبار (للضرائب القادمة) لا محالة كما يبدو، ومعرفة ردّات فعل النَّاس تجاهها، وفرضها تدريجيًا من الأبسط إلى الأصعب ليتقبلها الشارع، وهي- أي الضرائب على السلع الأساسية والاستهلاكية- مسألة أخرى أكثر أهمية، والتصاقاً بحياة المواطن، وذلك في حالة تطبيقها- كما هو متوقع- عاجلاً أو آجلاً، والتي لن يستطيع القطاع الخاص، ولا المواطن العادي احتمالها، رغم أنها ستكون جيدة للخزينة العامة للدولة، ولكنها لن تكون كذلك للمستهلك.

إن قياس الرأي العام لأي مجتمع أصبح ضرورة ملحة لمعرفة توجهات الناس، ومدى تقبّلهم وإشراكهم في القرار الذي يخص حياتهم، أما أن يتم اتخاذ قرارات في أبراج عاجية فذلك من شأنه إثارة الكثير من الجدل، وعدم تقبّل الآخرين، خاصة في حالة ثبات الرواتب (صوريّا) في ظل زيادة الأسعار، إضافة إلى زيادة أعداد  الباحثين عن عمل، وهو ما يجب وضعه في الاعتبار عند اتخاذ أي قرار حول زيادة أعباء الأسر في حال إقرار القيمة المضافة مستقبلاً على السلع الأساسية والمواد الغذائية بشكل عام.

لعل استثناء الخمور من تطبيق الضريبة الانتقائية لم يكن موفقًا، لا في إقراره، ولا في توقيته، ولا في التراجع عنه، ولكنه رغم ذلك يعتبر درساً إدارياً ومنهجياً مهماً لكل الأجهزة الحكومية ينص على عدم اتخاذ قرار- مهما كان- دون دراسته ومراجعته جيدا قبل إقراره وتصديره للمواطن، حتى لا يُربك ذلك الرأي العام، ويثير حفيظتهم. ولعلي أذكر هنا القرار الذي تم قبل سنوات بتغيير مواعيد ساعات دوام الجهاز الحكومي إلى التاسعة صباحاً، ثم التراجع عنه، بعد أن أثار ذلك استياء الرأي العام. ولعل دروس الماضي يجب إعادتها للحياة مرة بعد مرة لتثبت في الذاكرة الإدارية لبعض المسؤولين، لعلهم يتذكرون.