الشركات الحكومية الخاسرة

 

د. عبدالله باحجاج

ما يطرحه عنوان مقالنا هو جديد/ قديم، وفي كل حالة مُتجددة عن خسارة إحدى الشركات الحكومية، يتسارع الخبراء إلى تقديم نصائح للحكومة بخصخصتها أي تحويل ملكيتها من الدولة إلى ملكية خاصة، والملكية الخاصة تكون دائماً لمتنفذين يجمعون مناصب عُليا وفي الوقت نفسه لديهم شركات كبرى في ازدواجية المواقع تؤثر إيجابًا على مصالحهم الخاصة، أو يتم تحويلها إلى "لوبيات" مرتبطة بها، والمُدهش في تجربة الخصخصة في بلادنا أنها تمتلك عصا سحرية تحول خسارة هذه الشركات إلى أرباح سنوية، والذي يدعو إلى الدهشة كذلك، أن الخصخصة تطال مشاريع حكومية ناجحة في ذاتها.

هذا يكشف لنا أن وراء الشركات الحكومية الكاملة أو الجزئية عيون حاسدة طامعة بها، تُؤدي إلى خسارتها من أجل شرائها، وإلا، فإذا كانت العلة في الإدارات، فلماذا لا يتم تغييرها إذا كانت هي المشكلة أو حتى جزء منها؟ ولماذا الإصرار على بقائها رغم فشلها المُتكرر؟ وكيف تنجح في القطاع الخاص؟ علماً بأنَّ نجاح الكثير من الشركات الحكومية التي عددها الآن أكثر من 60 شركة، مضمونة في أنشطتها، ولا داعٍ للاستدلال هنا بشركة معينة حتى لا يفهم أننا نستهدفها على وجه الخصوص، وإنما نطرح هنا قضية الشركات الحكومية بصورة عامة.

ولو تعمقنا في منظومة المصلحة الوطنية، فسنجد أنَّ خصخصة الشركات الحكومية ليست في مصلحة الوطن والمواطن، خاصة تلكم التي تمتلك كل مقومات الربحية، فهذه الشركات يفترض أن تكون الآن مصادر دخل مضمونة للدولة، وتجنى منها أرباح سنوية مُباشرة وغير مباشرة كالضرائب، ويُمكن كذلك أن تجنى منها موارد مالية إضافية إذا ما رفعت قيمتها السوقية في سوق الأسهم، فلماذا تخسر؟ ربما لدواعي التفريط فيها.

لو بحثنا الآن في بعض الشركات الحكومية التي تم تخصيصها، فهل كان ينبغي أن تخصص؟ لأنها مربحة في غرضها، والعلة في إدارتها وكذلك في غياب المساءلة، وهنا جوهر المشكلة، لن نبحث عنه بعيدًا، ولن نجامل فيه، لأنَّ هذه ثروات الوطن والمواطن، وكلاهما في أمسَّ الحاجة إليها الآن في ظل تحولات الدولة الإستراتيجية الكبرى.

فمن ينجح في إدارة هذه الثروات عليه البقاء ومنحه الحوافز التشجيعية المستحقة، ومن يفشل عليه أن يترك المهمة الوطنية لغيره، ليس لدينا من خيار آخر غير النجاح فقط، بل هي لا تحتمل سوى النجاح، وفشلها لن نجد سببه سوى في إداراتها وغياب المساءلة والمحاسبة، وأغلبها الآن فاشلة وفق ما يقوله الخبراء، وأغلبها، تشكل ثقوباً في جدران ميزانية الدولة السنوية، كل سنة مالية تستنزف الملايين منها، رغم أنها يفترض أن ترفدها- أي ميزانية الدولة- بالملايين سنوياً، وليس العكس.

قد يكون مقبولاً الخسارة من هذه الشركات، لو كانت في مرحلة التأسيس، لكنها متوغلة في القدم، ويستوجب منها الآن أن تكون مساهمتها في الميزانية السنوية للبلاد بنسبة معتبرة، لن افتح هنا ملف الجيوش من العاملين في هذه الشركات ولا المُرتبات الخيالية والامتيازات السنوية المتعددة الأشكال الممنوحة لهم، فهذه قضايا ستكون تحصيل حاصل، الدراسات التي ينبغي إجراؤها بصورة عاجلة في خطوة متزامنة وعاجلة لا تقل عنها أهمية وحتمية.

وهي إقامة كيان رقابي وإشرافي مستقل عليها، ويرتبط بأعلى مؤسسة في البلاد، ويكون من بين أعضائه شخصيات من مجلس عُمان "الشورى والدولة" وترأسه شخصية وطنية عالية الكفاءة والنزاهة وليست تاجرة ولا لها مصالح اقتصادية، ولا تخرج من أرحام تزكيات ولا ترشيحات اللوبيات القائمة، كل أطره وكوادره يخرجون من المصنع الوطني مثل ما خرج سعادة الدكتور سعيد بن خميس الكعبي منه لتولي قيادة الهيئة العامة لحماية المُستهلك الناجحة بامتياز.

هذه الشركات الحكومية - الناجحة في أنشطتها مسبقا- ينبغي أن تظل في عهدة الدولة كمصادر دخل للبلاد، وهي مثلها مثل المصادر الأخرى المستدامة، لا ينبغي التفريط بها أبداً، ونقول للمطبلين بمسوغات تفرغ الحكومة لمهامها الأساسية، نقول لهم إن هذه الشركات لو توفرت لها إدارات تكنوقراطية تعمل بمهنية وأفكار القطاع الخاص، ويُراقبها جهاز رقابي وإشرافي فعَّال ونزيه.. ستشكل مصادر دخل معتبرة ومستدامة لميزانية الدولة.

والجهاز الرقابي والإشرافي يقترحه كذلك الكثير من الخبراء المستقلين الذي يمتنعون عن دق طبل الخصخصة لمثل هذه المشاريع الناجحة، فتسليمها للقطاع الخاص، يُخفي ما وراءه من خلفيات محلية وعالمية، ويفرغ الدولة من مصادر مضمونة الأرباح.

وكلما تأملنا في تجربة الخصخصة في بلادنا وانعكاساتها الاجتماعية والوطنية، كلما نزداد يقيناً ببقاء ملكية الدولة للشركات الحكومية الناجحة في أنشطتها، فالخصخصة لم تحقق الثنائية المتلازمة والمتناغمة حتى الآن، وهي مصلحة الوطن والمواطن، وقد تحدثنا عن مُعاناة المواطنين من الخدمات التي تقدمها الشركات بعد خصخصتها، وهذا في حد ذاته يسقط حجية تحسين الخدمات، وتحدثنا كذلك عن تأثير مواردنا البشرية بهذه الخصخصة.. وهذه ثروات وطن.. وحتى لو استدعى بعضها الخصخصة لأسباب موضوعية، لا ينبغي أن يكون المسؤول عن مآلاتها فردا أو أفرادا.. وإنما مشاركة العقل الجمعي.

وبما أنها ثروات وطن ومواطن ومضمونة الربح، فلابد أن تكون هذه الشركات في أحضان الدولة كمصادر دخل، لكن ينبغي أن تُديرها عقول قادرة على تحقيق نجاحاتها المالية وانعكاساتها الاجتماعية، وهناك قيادات وطنية أثبتت قدرتها على صناعة النجاح ووأد الفشل بكثير من الشركات الخاصة، بمعنى أن بلادنا لن تنقصها القيادات أبدًا، لكن علتنا هنا أن القيادات في بعض الشركات الحكومية يتم اختيارها عن طريق التزكيات والتدويرات من قبل لوبيات لكي تخدم مصالحها.. لذلك هي خاسرة، وستستمر في الخسارة حتى ترهل ميزانية الدولة، ونضطر إلى بيعها للوبيات.. وهذا ما خططوا له، وهذا ما يُريدونه، وينجحون دائماً. وأخيرًا نتساءل: هل هناك ضمانات يُمكننا الرهان عليها في بقاء ملكية الشركات المضمونة الربح للدولة؟