في قضية نحن والتراث : ماذا نأخذ وماذا ندع؟

 

عبد الله العليان

لا تزال قضية التراث العربي وما به وما عليه، مدار الحديث والنقاش، من الباحثين والكتاب، منذ ما يقرب من قرنٍ أو يزيد، فالبعض يُجاهر بصوته أن أزمتنا الراهنة في هذا التراث، وأنه لابد من إزاحته ونلتحق بالغرب والأمم المُتقدمة، والبعض الآخر يرى أنَّ الأزمة ليست في التراث، وأن اليابان والهند تقدمتا نهضوياً، مع تمسكهما بالتراث، مع أنَّ بعض هذا التراث عندهم، مليء بالخرافات والأفكار البالية، والبعض الآخر يخلط بين الدين والتراث، والفارق بينهما كبير وشاسع، وديننا الإسلامي، لم يقف حائلاً أمام النهضة والتقدم، والدليل على ذلك أنَّ في العصر الإسلامي الأول وما بعده أقام حضارة عالمية، شهدت الثقافات والحضارات الأخرى بالريادة الفكرية والفلسفية إلخ، فالمسألة تتوقف على قضية النظرة الموضوعية لهذا التراث، باعتباره ماضياً، لكنه يعيش فينا بلا شك، على ألا تكن لهذا التراث من التقديس، والرجوع إليه في كل شاردة وواردة، وحاجتنا إليه ضرورة فكرية ـ كما يقول محمد عابد الجابري ـ لأن "العودة إلى التراث في حياتنا المعاصرة هي جزء من عملية الدفاع عن الذات": ففي كتابه الموسوم (من أجل انطلاقة حضارية شاملة) يرى د. عبد الكريم بكار أن التراث هو عطاء الآباء والأجداد عبر قرون مضت على كل المستويات، وهذا التراث، أصبح ملك الأجيال، وما تراكم لديهم من خبرات حضارية متنوعة "فقد نختلف أيضاً في الحكم على موقف أو قول يعود إلى الماضي، وما نعده تراثاً للتابعين عاشه التابعون ـ رضي الله عنهم ـ على أنَّه واقع. والواقع الذي نحياه اليوم سوف يُصبح تراثاً في نظر الأجيال القادمة. وكما أننا لا ننظر إليه نظرة التقديس وتصويب مطلق، فمن حق المسلمين اللاحقين أن ينظروا إليه النظرة نفسها، بل يجب عليهم أن يفعلوا ذلك". ولذلك من المهم كما يرى د.عبد الكريم بكار أن تكون الرؤى مشدودة إلى مسألة التجديد، سواء في النظرة للتراث الماضي، أو المُستجدات التي تطرأ في عصر، وعدم البقاء على اجتهادات القدماء، فبعض هذه الاجتهادات، متعلقة بواقعهم هم، كما عاشوها، ذلك أنَّ "استقلال الوحي عن التراث منحنا جرأة نادرة في مقاومة استحالة التراث واجتهادات البشر إلى قيود ومحددات تجعل مستقبلنا ومتطلباته الفكرية والثقافية مرهونة لدى اجتهادات ورؤى ماضية ( (:كما أنَّ هذه الوضعية الحضارية المتفردة والجامعة بين إلزامية الوحي والتخير من التراث ـ تمكننا من إنتاج حضارة تجمع بين جنباتها تنوعاً لا حدود له في إطار من التوحد الملتزم بمبادئ هذا الدين وقطعياته وغاباته". وهذا الذي جعل مسار الحضارة العربية الإسلامية، مساراً متعدداً متنوعاً، بعيداً عن التعصب الفكري والعرقي، وكان الإسهام في هذه الحضارة، جاءت من كل الشعوب التي دخلت في هذا الدين، وشاركت في إثراء هذا التراث."ونخلص ـ كما يقول د. بكار ـ من وراء ذلك إلى أن التراث لا يشكل بمفرده(هويتنا) العقدية والثقافية، كما أن تعزيز الشعور بتلك الهوية لا يتم من خلال العودة إلى التراث فحسب، فهويتنا مستمدة من المنهج الرباني نفسه، ووظيفة التراث إغناء المنظومات الرمزية والشعورية والعقلية لدينا بالمواقف والمُثل الطيبة. لكنه لا ينفرد بتشكيلها. وهذا هو السر في قدرة الأمة على التجدد والتجديد كما أدت تراكمات العادات والتقاليد إلى وضع أكوام الرماد فوق جذوة التوحيد وألق المنهج الرباني الذي أكرمنا الله تعالى به".

والإشكالية عند البعض من المُسلمين، نظرة للتراث، نظرة قاصرة وضيقة، ويقفون من التجديد والاجتهاد، في المستجدات، موقف الرفض والاستنكار، وهذا يعني أنَّهم لا يفرقون بين النصوص القطعية، والاجتهادات البشرية، التي يأخذ منها ويترك، كما يقول أحد العلماء، ويؤكد د.بكار أن هذا الأمر يحتاج إلى رؤية واعية وواقعية لهذا التراث "وإلى جانب الحرص على نشر ما هو مهم من تراثنا، وما ليس مهماً نجد لدينا نوعاً آخر من الذوبان في التراث يتمثل في الخوف من كل قول، أو رأي لم نجد له سابقة تراثية، يجري التأسيس عليها؛ فترى الذين يدعون إلى الاجتهاد والتجديد يقفون موقف المشنِّع على من يأتي بقول جديد، مهما كانت درجته العلمية وخبرته. وهذا مع أن الحوادث غير محدودة، والنصوص محدودة وليس أمامنا من خيار سوى الاجتهاد. وطبيعة الاجتهاد تسمح بالمجيء بقول موافق للسابقين أو مخالف لبعضهم". ولا شك أنَّ أمتنا تمتلك تراثاً كبيراً وعظيماً، وهذا لا شك يمثل ثراءً مهماً لمراجعته، تستفيد منه الأمة، تستلهم منه الإيجابي، وتتجاوز السلبي منه، أما ما هو غير مفيد، خصوصا القضايا الاجتهادية المرتبطة بزمنها وظروفها، ومع تطلعنا إلى المستقبل وحركته المتغيرة، فإننا يجب أن نتنكر لماضينا، فهناك عقول لها إسهامات كبيرة، نحتاج إلى رؤاها وحكمتها. فـ "ليس بين الأمم الموجودة اليوم، أمة تملك تراثاً كالذي تملكه أمتنا، في تنوعه وغزارته. كما أنه لا يوجد تراث تعرض للطعن والجحد والتشريح بالقدر الذي تعرض له تراثنا الإسلامي. وقد فتح المستشرقون الأوربيون باب نقد تراثنا بوضع المناهج النقدية، وبدراسة نماذج منه على نحو يوحي للقارئ بتفاهته وضآلته وكونه العقبة الكؤود التي تحول دوننا، ودون تمثل النظم الحضارية الحديثة. وكان القصد النهائي من وراء ذلك كسر شوكة الاعتزاز بذلك التراث تمهيداً لاحتلال وعينا، وتهيئتنا للغزو الثقافي الضخم الذي جاء في أعقاب ذلك". وللأسف فإنَّ البعض ممن أنبهر بالغرب من أمتنا، وبكتابات البعض ممن له نظرة سلبية لثقافة الآخر المُختلف، كتب مهاجماً هذا التراث، وأخذ بفكر الغرب ورؤيته لهذا التراث، طاعناً ومحبذاً نسفه والقضاء عليه، لكونه اعتقد أنَّ الغرب سار في هذا الطريق، وهذا ليس دقيقاً، فالغرب انتقد الكنيسة وما قامت به من تجاوزات، وليس التراث الغربي نفسه، والإشكالية أنّ هؤلاء ورثوا "مناهج المستشرقين ورؤاهم ونتائج بحوثهم أعداد ضخمة من الباحثين من بني جلدتنا، وصارت مهمتهم إكمال ما بدأه أساتذتهم، وزاد في عدائهم للتراث الإخفاقات المتتالية التي واجهتها النظريات والمناهج والحكومات التي حذت حذو الغرب في التنمية والتحديث؛ حيث وجدوا في التراث (الشماعة) التي يمكن أن يُعلق بها كل انكسار وإخفاق يحدث لهذه الأمة في عصورنا الحديثة".ِ ولذلك نعتقد من المهم والأفضل ألا نكون مقلدين لما يجري في ثقافات الآخرين ومشكلاتهم، وإسقاطها على واقعنا العربي والإسلامي، فلكل أمة ثقافتها وتراثها، فالاستلهام يكون في المناهج والأسس التي سارت عليها، لتجديد سياساتها وتعديل طرقها في النهوض والتقدم، وليس استجلاب التجارب والنظريات وتطبيقها على واقع مغاير ومختلف فكرياً وثقافياً.