عبد الله العليان
برزت منذ عدة أيام، الكثير من الكتابات والدراسات والأحاديث التليفزيونية، حول قضية الخطاب الديني، لقضايا عالقة، وهذا الكتابات تطرح العديد من الرؤى، بعضها لا يبحث جيداً، في الأسباب الحقيقية المؤدية لهذا الغلو، والتطرف، والتكفير، والإصلاح المطلوب.
ومن هنا باتت هذه الدراسات والكتابات، تغرد خارج السرب، أو كما يقول المثل (كمن يؤذن في مالطا!)، حتى الغرب نفسه يُطالب بعض البلاد العربية والإسلامية بتجديد الخطاب الديني! ولذلك لم تحقق هذه الكتابات الأهداف المنشودة في الحفر عميقاً في هذه الظاهرة والمسألة ليست مسألة خطاب يوجه، القضية قضية فكر وأسباب عديدة دافعة له، وبعض هذه الجماعات، لا تقرأ غالبية هذه الخطابات، وتعتبرها مخالفة ومناقضة لفكرهم، والإشكالية في انتشاره بصورة تبعث على الاستغراب، فيظهر في مكان ما ثم يختفي، ثم يظهر في مكان آخر هكذا، ولم يخفت انتشاره، ولم يتم القضاء على هذا الفكر، ولا معرفة أسبابه، عدا الحديث عن تجديد الخطاب الديني لمُواجهة ظاهرة التطرف والتكفير، وهذه للأسف نظرة قاصرة، ولا تسهم في التقليل أو المنع ولا معرفة كيفية بروزها، ثم توسعها في أماكن كثيرة وما تزال.
ومن الكتاب الذين أدلوا بدولهم في مناقشة قضية الخطاب، المُفكر العربي السوري، د.عبد الكريم بكار في كتابه (تجديد الخطاب الإسلامي)، فيرى في مقدمة هذا الكتاب، أن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني "دعوة حق، وهي تعبير قوي عن الشعور بالحاجة إلى المراجعة والنقد الذاتي، كما أنها تعبير قوي عن الشعور بضرورة الانسجام مع المُعطيات الجديدة من أجل خدمة الخطاب الإسلامي نفسه وخدمة الذين يقدم لهم هذا الخطاب" ولكن د. بكار يضيف وجهة نظر أخرى، يراها أكثر إيجابية في مهمة الخطاب وضروراته، بما يحقق الأهداف المُبتغاة من هذا الخطاب، وهي " إن العقل البشري قاصر عن بلورة رؤى كلية وتامة دفعة واحدة، لأنه يُدرك حقائق الوجود وماهيات الأشياء وشروط النهوض والإصلاح على سبيل التتابع والتدرج. كما أنَّ هناك الكثير من الخفايا والدقائق والتفصيلات التي يصعب عليه الإلمام أو الإحاطة بها(:) ومن هنا فإنَّ كل رؤانا الإصلاحية الناجزة على مستوى الشكل وعلى مستوى المضمون، وعلى مستوى الإنجاز الداخلي وعلى مستوى العلاقة مع الآخرين، هي رؤى موسومة بالنقص".
ولا شك أنَّ النقد والتقييم والمراجعة لأي خطاب، أو فكرة، أو رؤية لقضية ما من القضايا، سواء إصلاح الواقع، أو مواجهة التكفير، أو مواجهة التطرف، سيكون له مردوده الإيجابي، فالنقد يلعب دوراً مهماً في كشف السلبيات وإيجاد المخارج الإيجابية وإيضاحها، ومن هذه المنطلقات ـ كما يرى د. عبد الكريم بكار ـ أنه في غياب النقد عند توجيه "الخطاب الإسلامي الدعوي والإصلاحي والوعظي، يظل مفتقداً إلى نوع من القراءة النقدية المستمرة، إننا نكتشف في كل يوم مفاهيم ومتطلبات وشروطاً لم نكن على دراية حسنة بها، إن هذا الاكتشاف يجب أن ينعكس على مجمل الخطاب لدينا". والإشكالية كما يرى د. بكار أنَّ البعض لا يقبل النقد الذي يراه مخالفًا له، وهذه إشكالية فكرية ومنطقية، فالاختلاف سنة إلهية، وحاجة وضعية إنسانية، فتعدد الخطابات وتنوعها، إيجابي لمُعالجة القضايا الملتبسة، التي تختلف حولها الأفكار، لكن لدى البعض "من الإصلاحيين والدُعاة والمُفكرين شيء من النرجسية والاعتداد المبالغ فيه بالرأي إلى جانب الاستهانة برأي المخالف إلى حدود لا تسمح بها البراهين والمعطيات العلمية والتفكير المنهجي الموضوعي. كيف سنلتقي إذا كان كل واحد منِّا يعتقد أن رؤيته لمشكلاتنا وحلولها رؤية ناضجة ومكتملة، ورؤية غيره ناقصة أو مشوهة؟. وكيف سنلتقي إذا كان فريق منِّا ينظر إلى نفسه على أنه صاحب الفكر الحديث المتنور، وينظر إلى غيره على أنه تقليدي مرتهن للماضي؟. أما الفريق الثاني ، فإنه ينظر إلى نفسه على أنه صاحب الفكر المؤصل المدلل والمدعوم بالشواهد التاريخية. أما من يختلف معهم، فإنهم عبارة عن أقوام لا يُعادل فتنتهم بالغرب سوى جهلهم بأصول الشريعة والتاريخ الإسلامي".
والمسألة التي يراها د.عبد الكريم بكار، هامة وضرورة في قضية الخطاب الإسلامي، ألا تكون النظرة غير مُتعمقة لمسألة إيجاد خطاب يتعاطى بوعي ورؤية حصيفة للواقع المراد مراجعته، فيرى أن هناك "ثغرة واضحة تتجلى في قلة اكتراثه بإيجاد الحلول للمشكلات والأزمات التي يعاني منها معظم المسلمين. لا شك أن رياحاً رخية من التغيير الإيجابي هبت، وتهب على هذا الخطاب، لكنه مازال في معظم مقولاته مرتهناً لـ (الأسلوب التوصيفي) إذ نشعر في أحيان كثيرة أننا نبرئ الذمة، ونقوم بالواجب إذا وصفنا للناس ما هم فيه من تأزم، ثم حثثناهم على أن يبذلوا جهدهم في تحسين أوضاعهم".
ويلخص د.بكار رؤيته في قضية الخطاب الديني، أن ينطلق وفق الأساليب والأسس المنهجية لكل القضايا التي يستهدف تحقيقها فيرى "أننا إلى اليوم لم نقم بواجبنا على النحو المطلوب في اتباع الأسلوب الأمثل لتحديد طبيعة المشكلات التي تعاني منها الأمة وحدود تلك المشكلات وخطورتها. وذلك الأسلوب يقوم على البحث العلمي الرصين والمرتكز على رؤية عميقة لسنن الله - تعالى- في الخلق وإلى ما هو مكتشف من طبائع المجالات عامة وطبيعة النفس البشرية خاصة".