جوخة الحارثي وصورة العماني الآخر

د. سيف بن ناصر المعمري

ما جَرَى خلال هذه الفترة يعدُّ مُفارقة كبيرة تتطلب منَّا إعادة جَمع عدة أحداث وتتبُّع عِدة خيوط لنفهم -نحن العمانيين قبل غيرنا- من هو العُماني الآخر الذي لا نعرفه، أو الذي رُبما فقدنا القدرة على قراءة اتجاه البوصلة الذي يوصلنا إليه؛ فلم نتمكن من تحديد أين يختبئ، أو أين يقيم؛ ففي الوقت الذي تَعْرض فيه إحدى المحطات الخليجية مسلسلًا يصوِّر العماني بشكل "الإنسان الضعيف الجاهل" الذي يعمل خادمًا وصبيًّا عند إحدى الأسر الخليجية قبل عدة عقود من الآن، في محاولة -كما نوهت في مقال سابق- ليست لسرد تاريخ مَضَى وإنما لإنتاج صورة منمطة عن العُماني لها أهدافها الممنهجة التي تسعى لتكريس حالة الشعور بالضعف والعجز عن التطور الذي بلغه الآخرون من حوله.

في ظل ذلك يأتي التوتر في منطقة الخليج بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وتتجه مباشرة الدولة العظمى ليس لأي أحد إنما إلى العماني المحايد والمسالم والمقبول من الآخر، ليكون وسيطا في مُعضلة مُعقَّدة جدا ولا أحد يفهم أبواب ومسارات الولوج إليها وجمع أطرافها إلا هو الذي سبق له وحقق فيها إنجازا لم يكن لأحد في العالم، خاصة العالم الغربي، أن يحققه؛ هذه الصورة للعُماني في العالم السياسي والدبلوماسي هي وجه آخر لصورة العماني القوي؛ وتكتمل المفارقة في هذا المشهد بفوز جوخة الحارثية الروائية العمانية بجائزة "إنترناشيونال مان بوكر" البريطانية المرموقة، تفوز بها ليس كأول شخصية عربية إنما تفوز بها متفوقة على عدة روائيين تقدموا من عدة دول: فرنسا وألمانيا وبولندا وكولومبيا وتشيلي، ووصفت صحيفة ذي ناشيونال الرواية بأنها "إنجاز قوي، ومنسوجة بحرفية، وبها خيال عميق"، وذهبت لوصف الروائية بأنها ذات "موهبة أدبية كبرى".

جوخة بفوزها تؤكد صورة العُماني الآخر؛ الفكرية والمعرفية التي ترسخت عبر التاريخ وقدمت أعمالا استثنائية خالدة، وصنعت مجدًا لا يمكن أن يوازيه مجد، ورغم أن التاريخ عادة يركز على السياسيين، إلا أنَّ قوة الإنجاز الفكري فرضت أسماء عمانية على هذه السجلات التاريخية بدءا بالخليل بن أحمد الفراهيدي الذي اخترع علم العروض وهو علم لو قِدمه في عالم اليوم لينال عليه جائزة نوبل، مرورًا بأحمد بن ماجد الذي أسس لعلم البحار، ناهيك عن العلماء الذين أسسوا لعلم اللغة ومعاجمها، وغيرهم ممن أبدعوا في مجالات متعددة في سلسلة لم تنقطع طوال التاريخ، كل هؤلاء خرجوا من هذه الأرض التي كانت عيونها وأوديتها وآبارها وأفلاجها تتدفق معرفة وعلماء، أثروا به الحضارة الإنسانية وجعلوا لهذا البلد منبعَ علم لا ينضب وهي الصورة التي ربما يجهلها كثيرون عن العُماني بمن فيهم العمانيون أنفسهم، ولا يرون أمامهم مما مضى إلا القلاع والحصون، وكأنَّ الذي عمل على بنائها بهندستها الفريدة لم يتركوا خلف جدرانها مجلداتهم الفكرية.

إنَّ فوز جوخة الحارثي بهذه الجائزة العالمية؛ لم تكن قيمته 60 ألف دولار؛ لأنَّ هناك قيمة كبرى من هذا الفوز تعود لعدة أطراف، خاصة وأنَّ العالم الغربي يحتفي بالجوائز الأدبية والكتاب ليس كما نحتفي نحن بهم؛ ففي الوقت الذي تظهر فيه الصفحات الثقافية معنا خبرًا مُوجزًا عن مِثل هذه الأحداث، تتصدَّر مثل هذه الأخبار مُقدِّمة قنوات الأخبار والصحف في العالم الغربي؛ وبالتالي فظهور هذه العمانية في هذه القنوات كأديبة متميزة تعبر عن ثقافة عربية أصيلة، يقدم صورة مختلفة عن العربي والعربية في هذا العالم الذي عَمد لتَنميط هذه الأمة في أوصاف سلبية مرتبطة بالعنف والتخلف، والإرهاب والتفجيرات، وعدم القدرة على صناعة التميز في الأدب العالمي، وتغيير مثل هذه الصورة لم تُفلح معه مؤسسات كثيرة حتى اليوم رغم إمكاناتها وجهودها الكثيرة، علاوة على ذلك نجحتْ هذه الكاتبة في نقل ثقافة بلدها وأصالتها من خلال شخصيات روايتها النسائية إلى العالم الذي احتفل بتسليم جوائز هذه المسابقة، وأُجزم أنَّ ما قامت به لن تنجح مؤسساتنا المختلفة في بلوغه ولو عملت سنوات عديدة؛ فالغرب أمَّة تقرأ وبوابتها الأفضل الأدب، هم يتتبعون العوالم التي تنقلها الكتب لهم عن الثقافات الأخرى، ويعدون الكاتب رمزًا وطنيًّا، والمجد عندهم لمن يمنح بلده مجدا؛ فهذا الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس حين أبن الروائي ماركيز يقول: "المجد الأبدي للشخص الذي أعطانا مجدا كبيرا"، ووصفه بقوله سيظل "أعظم كولومبي في التاريخ"، "كيف يُصبح أي مواطن عظيما إلا إذا رفع اسم بلاده في أعلى المستويات وعلى أوسع نطاق".

إنَّ جوخة الحارثي تقدِّم صورة للعُماني الآخر الذي يجب أن نُقدِّمه للعالم؛ ويجب أن نلتفت إليه، ونعمل على أن يكون واجهتنا للعالم المتقدم من حولنا الذي يعرف كيف يمنح القيمة للأعمال والأشخاص، هذا الفوز كما ألقى علينا بقُنبلة من الفرح إلا أنه أيضا يلقِي علينا حَجَرا كبيرا على عقولنا ومؤسساتنا، وبالذات التعليمية والثقافية؛ حيث يُمكن أن تكتشف المواهب أو تُوأد، هل يمكن أن نبدأ مشروعا واعدًا مستقبليا لتقديم 100 أديب ومفكر عُماني إلى العالم؟ هل يمكن أن نستثمر حالة الإلهام الكبيرة التي صنعتها هذه الكاتبة للأجيال العمانية الحالية؟ هل يمكن أن نضع اسمها على مؤسسة ثقافية؟ أو قاعة في جامعتها أو نُؤسِّس مركزًا للترجمة يحمل اسمها كجواز عبور لنا نحو العالمية؟ هل يُمكن أن نغيِّر من نظرتنا للكاتب وقيمته؟ هل يمكن أن نعيد النظر في صناعة الكتاب؟ في جمعية الكتاب ودورها نحو الأدباء الشباب؟ في القناة الثقافية التي رُبما لم تظهر فيها هذه الكاتبة بعد؟ أو في مجلاتنا الثقافية وصفحاتنا وأقسامنا الثقافية؟ أو في حركة النقد الأدبي والاحتفاء بالأعمال الأدبية العمانية في القسم الذي تنتمي إليه الكاتبة؟ هل سيكون يوم إعلان الفوز بالجائزة منطلقًا لحدث ثقافي سنوي؟ والسؤال قبل هذا وذاك: من سيتولى تمويل توزيع هذه الرواية في نسختها العربية التي طبعت في 2010 أي منذ ما يزيد على ثماني سنوات على العمانيين لتكون احتفالية تليق بهذا الإنجاز الفكري؛ لنبعث رسالة إلى الجميع: مسؤولينا ومتخذي القرار وشبابنا، أنَّ الفكر كان منبعَ قوتنا وتفوقنا وأصالتنا، وهو اليوم جواز مرورنا للعالم كأمة متميزة حضاريًّا.