الكبار يفسدون القرنقشوه

 

جمال النوفلي

 

عندما كنت صغيرًا جدًا لم يكن في قريتي الزراعية في الباطنة شيء اسمه القرنقشوه، وإنِّما كنا ننتظر بفارغ الصبر شروق أول شمس من منتصف رمضان لنبدأ رحلة طويلة من التجوال لتجميع الحلويات والبيسات من الأمهات والآباء في بيوت القرية حتى حلول يوم السابع والعشرين من رمضان، وكنَّا لا نجمع في العادة أكثر من مائتي بيسة، لكننا في أثناء هذه الرحلة الشاقة التي نقضيها مع بقية أطفال الحارة نتعلم الكثير من القيم الجميلة، منها قيمة المُشاركة في المال والمأكل، وقيمة الإيثار، وقيمة الصبر على طلب الرزق، كما نتعلم طريقة عد النقود، وكيفية السلام ومُحادثة كبار السن في المُجتمع وتعريف أنفسنا إليهم بأدب جم. وحين رحلت من قريتي وأتيت إلى العاصمة مسقط اكتشفت أنَّ هناك شيئاً اسمه القرنقشوه، حيث يغني فيه الأطفال وينشدون الأنشودة المعروفة لدى الجميع، ثم صارت هذه القرنقشوه إحدى العادات والمُناسبات العمانية الأصيلة التي يحتفل بها الأطفال في كل أنحاء عمان، ثم تطورت مع السنوات لتصبح مُناسبة سنوية مهمة يحجز الكبار من أجلها القاعات ويقيمون في المراكز التجارية حفلات وسهرات يقدمون فيها المسابقات ويغنون الأغاني ويعزفون الموسيقى ويوزعون الهدايا ويحضرون الكاميرات والإذاعات، والتي أصبح حتى أطفالي يحرصون على ارتيادها عند كل منتصف رمضان مرددين بفرح الأغنية المعروفة قرنقشوه يوه ناس عطونا شوية حلوى.

القرنقشوه ليست بدعة بل هي عادة حسنة، وإنما البدعة السيئة هي أن يخرج مجموعة من الشبان الكبار بميوعة وقلة اكتراث بالقيم والتقاليد ليزجوا بأنفسهم بين الأطفال فيفتعلوا الأباطيل بلباسهم، والبدعة السيئة هي أن يحرم بعض الكبار أطفالهم من مُشاركة بقية الأطفال هذه المناسبة بحجة أنَّهم سمعوا بأنها عادة وثنية محرمة، والبدعة السيئة أيضًا هي أن تبتدع بعض الأمهات سلوكيات وطقوسا غير حضارية وغير إنسانية لأطفالهن كأن يجبرنهم على ارتداء ملابس خاصة بهذه المناسبة فيكتبن فيها عبارات وصورا للقرنقشوه أو يتكلفن بتصميم واقتناء هدايا ثمينة لتوزيعها على الأطفال ليتفاخرن بها بين أقرانهن أو في وسائل التواصل الاجتماعي، فهذا سلوك غير حضاري لأنَّ فيه كلفة زائدة تخرج المناسبة عن هدفها المنشود الذي هو توطيد العلاقة بين أفراد المجتمع الواحد من الصغار والكبار، بل إن هذه السلوكيات تجعل القرنقشوه مناسبة مادية صرفة خالية من أي روح أو معنى، كما أنها أيضًا سلوكيات غير إنسانية لأنها تبعد المناسبة عن غايتها الإنسانية النبيلة وهي ترسيخ قيم العطف والتراحم بين طبقات المجتمع فالجار يعطف على أبناء جاره ويشاركهم الحلويات والحكايات، ويتشارك الأطفال فيما بينهم روح الغناء والفرحة وتجميع الحلويات والهدايا.

 فمن أين سيأتي هذا التراحم والتعاطف إن كانت كل امرأة تتكلف الهدايا والعطايا لأجل التباهي والتفاخر بها بين بقية الأسر والعائلات التي عادة لا تكون قادرة على مجاراتها في هذه التكاليف الباهظة، مما يُولد لديها شعورا من الأسى والحزن بأنها غير قادرة على مجاراة الأخريات في ذلك..

 إنِّهم هم الكبار الذين يفسدون فرحة الصغار حين يزاحمونهم في حفلات القرنقشوه فيعلمونهم الأنانية ومشاجرة الأطفال الآخرين في الاستيلاء على الهدايا والحلويات، ويقتلون فيهم قيمة إنسانية مهمة جداً وهي قيمة الإيثار والتعاون التي ذكرنا الله تعالى بقوله: ((ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)).

لذا علينا نحن الكبار أن نُعيد النظر في أنفسنا وفي الأثر الذي نتركه في أبنائنا بعد كل حفل قرنقشوه، ولندع الصغار وشأنهم ليمارسوا احتفالاتهم القليلة بكل براءة وهدوء ومحبة ومساواة وعدم تكلف، وألا ندنسها بما لدينا من أمراض كحب الظهور والتفاخر بالمال والأنانية وحب التملك.