د. عبدالله باحجاج
المُتأمِّل في خارطة التحديات التي تواجِه بلادنا الآن -الداخلية والخارجية على السَّواء- يخرُج منها برُؤية واحدة لدواعي مواجهتها، وهى تفعيل أدوار الرقابة المتعددة والمختلفة، ومن ثمَّ الاحتكام للقانون للمساءلة والمحاسبة، وبصورة شفافة لدواعي الردع، وهذا الأخير -الغائب الآن- غيابه يُشجِّع على التمادي وعدم إعمال العقل تحسُّبا لنتائج أو تداعيات الأفعال؛ فطبيعة المرحلة الداخلية الراهنة، تتقاطع معها مرحلة إقليمية طامحة وطامعة في شأننا الداخلي، ولديها حسابات مغلُوطة عن طبيعة مرحلتنا الداخلية.
كقاعدة عامة، كلُّ مَن يضرُّ بلاده أو يسعى للإضرار بها، تجب مُحاسبته عاجلًا وليس آجلًا، وماهية المحاسبة تختلف من شخص لآخر وبحَسب حجم الضرر، وتكون المحاسبة ملحَّة وفوريَّة ومُغلَّظة ضد كل من يَسعى لإلحاق الضرر الأكبر بوطنه في القضايا التالية: الوحدة الترابية للوطن، أمنه واستقراره، اقتصاده، المساس بحالة السلم الاجتماعي بكلِّ مُكوناتها الفوقية والتحتية.. وهذه قضايا قد أصبحت مستهدفة الآن، ولها عِدة صور تبرز فوق السطح، مما يستدعي فعلا المحاسبة والتلويح بقوة القانون بدلا من الصمت عنها.
وإذا ما حاولنا أن نتوقَّف عند نموذج معين يستوجب فتح المساءلة فيه، فإننا ينبغي أن نتوقف عند ما كشفته مؤخرا شخصية اقتصادية رفيعة، تظهر الآن من ماضي تاريخها الحكومي، وتؤهِّل نفسها مُجددا كنخبة اقتصادية تدير مشاريع اقتصادية كبيرة، وتكشف علانية وللرأي العام وبصوت مرتفع وبثقة كبيرة عن وقائع ومعطيات خطيرة، تستوجب التحقيق فيها، ومن بين أخطر ما كشفه: وجود رجال أعمال أساءوا لسمعة البلاد الاستثمارية، ومعترفا بمعرفته الشخصية بهم، وموضحا أنهم كانوا من بين كبار المستفيدين من خيرات البلاد، وأن ثرواتهم قد نقلُوها للخارج، ويروِّجون للمستثمرين بعدم الجدوى الاستثمارية في بلادنا.
هذه جريمة، ويُمكن تصنيفها من بين جرائم الخيانة، وينبغي أن تُفتح أبواب المساءلة والمحاسبة، وبصورة علانية؛ لأنَّ القضية قد أصبحت قضية رأي عام، وعدم التحقيق فيها، يوسِّع قناعة الاعتقاد بغياب عامل الردع في المحاسبة، كما أنَّ طبيعة المرحلة التي نمر بها تستدعي إعمال قوَّة البلاد القانونية والقضائية، أسوَة بالمواطنين العاديين الذين قد يُسِيئون لبلادهم في الداخل والخارج، وتتم إدانتهم قضائيًّا، بل إنَّ مُحاسبة هؤلاء المسؤولين هي الأولى؛ لأنها الأخطر في تداعياتها على اقتصاد البلاد.
وعقابهم ينبغي أن يكون الأشد، فقد أعطاهم الوطن المال والعقار، ومنحًا وهبات وإعفاءات طوال عقود، ومهَّد لهم كل سبيل ووسيلة للثراء المضمون، وسمح لهم بنقل ثرواتهم للخارج.. ويقابلون جمائِله بالإساءة إليه، وإذا لم تسمَّ هذه خيانة وطن، فماذا ينبغي تسميتها؟ هذه الشخصية تقول حرفيًّا لإحدى القنوات الإذاعية الخاصة في البلاد، إنها تعرف الكثير من رجال الأعمال كسبوا أموالا من البلد، وأخذوها للخارج، ويتحدثون عن البلد وعن الاستثمار فيه بإساءات بليغة. ويردف قائلا، حتى إن أحد المستثمرين الخليجيين قال له مصدومًا: كيف يُوجد ناس يتحدثون عن بلادهم بهذا السوء؟!
هذه القضية تفك الكثير من الشيفرات الغامضة سابقا، فقد كان الكل يستغرب من عزوف الاستثمارات الأجنبية عن بلادنا رغم ما تتوافر عليه من عوامل جذب فريدة، لعل أبرزها حالة الأمن والاستقرار والموقع الجيوستراتيجي والتعايش الفكري والتناغم والانسجام الاجتماعي؛ فلم نكن ندري أنَّ هناك رجالَ أعمال "كثر" يُعرقلون الاستثمارات عن بلادنا، وهذا يفسر لنا الكثير من النتائج؛ لعل أبرزها: قلة فرص العمل المنتجة من قبل الاقتصاد، وكذلك جمود مستوى المعيشة الاجتماعية؛ وذلك لأن الاستثمارات المباشرة تعد أهم العوامل لزيادة معدلات النمو من خلال مساهمتها في زيادة القدرات الإنتاجية لاقتصادنا الوطني ونقل وتوطين التكنولوجيا الحديثة وزيادة فرص العمل وتحسين مستويات معيشة المواطنين...إلخ.
ويعني كذلك أنَّ هؤلاء -رجال الأعمال "الكثر"- قد عَرقلوا مسيرة انطلاقتنا الاقتصادية وانعكاساتها الاجتماعية الإيجابية؛ فكيف سيكون مستقبل "رؤية 2040" التي تعتمد في الأساس على الاستثمارات الخاصة؛ لذلك، فجُرم هؤلاء تجاه نِعَم بلادنا لن يقتصر على الماضي، بل على المستقبل كذلك؛ لذا تتوجَّب مُحاسبتهم وبصوت مرتفع.
كما يتوجب تشكيل فريق اقتصادي من نخب جديدة لفتح حوارات مع كبار الشخصيات الاقتصادية الإقليمية والعالمية دون أية حساسية سياسية من جنسياتها؛ لتشجعيها للاستثمار في بلادنا؛ لأنَّ رهانات تنميتنا الاقتصادية تتوقف على حجم مثل هذه الاستثمارات، فلا يمكن الرهان الآن لحل قضية الباحثين ولا رفع معيشة المواطنين بمعزل عن النمو الاقتصادي. وفي المقابل، لا يُمكن الرهان على النمو الاقتصادي المولد لفرص عمل دون الرهان على الاستثمارات المباشرة.
فمثلا "مول عمان" -وبصرف النظر عن كل ما يقال- الذي سيتم افتتاحه عام 2021 كما هو مُقرَّر، سيوفر أكثر من 42 ألف فرصة عمل، وهذا مِثَال واحد فقط للمشاريع الاستثمارية التي ينبغي الرِّهان عليها، أمَّا الحساسية السياسية التي يتوجَّس البعض منها، فيمكن إدارتها من خلال التشريعات والقانون والرقابة.. وإلا، فكيف نربُط تنميتنا الاجتماعية عامة والاقتصادية على وجه الخصوص بالاستثمار الخاص إذا ما غرقنا في مثل هذه الحساسيات.
وهل هُناك بديل عنها أصلًا؟ فرجال أعمالنا يعزفون عن الاستثمار في الداخل، ويفضِّلون الخارج، ولو فَتحنا رُؤية عامَّة من محافظة ظفار- مثلا- فلنا تصوُّر وضعها التجاري والسياحي دون الاستثمارات الخارجية؟ لذلك؛ لا ينبغِي الإغراق في هذه الحسَاسِية، بل ينبغِي أن توفَّر لكل المستثمرين كل الضمانات القانونية والقضائية لاستثمارات في البلاد، كما يتحتَّم رفع يد القوى المتنفِّذة المعرقِلة لمثل هذه الاستثمارات، ولنا في عَرقلة إقامة مدينة تجارية في السعادة أبلغ مثال يُدلِّل على أن عرقلة مثل هذه الاستثمارات يعني عرقلة التطور الاقتصادي ومن ثمَّ جُمود المجتمع، وهذا لن يكون في صالح مستقبل الاستقرار في بلادنا.