عبيدلي العبيدلي
منذ فترة ليست بالقصيرة، سيطرت على فضاء العالم الإعلامي بأشكاله المختلفة، التقليدية منها والإلكترونية، سيناريوهات احتمال اندلاع حرب بين طهران وواشنطن. وتجرأ البعض فلم يتردد في رسم الاحتمالات المنتظرة سواء على المستوى العسكري، أو حتى السياسي، فصنف القوى التي ستندرج في خانة المنهزمين، وتلك التي ستصنف في قائمة المنتصرين. وتحفز البعض الآخر، فراح يرسم معالم المعارك التي ستندلع، والنتائج التي ستولدها في نهاية تلك الحرب المنتظرة. قلة غير منظورة فضّلت الصمت، وعدم المشاركة في رسم تلك السيناريوهات، شعورا منها أنّ مثل تلك الحروب يصعب اندلاعها، عن حدوث ذلك بحاجة إلى تغير جذري، ليس هناك ما يشير له، في طبيعة الظروف المحيطة بالطرفين، والفاعلة في تحديد العلاقة التي تحكم سياسة كل منهما تجاه الآخر.
في اختصار طغت احتمالات اندلاع تلك الحرب على ما سواها من الخيارات الأخرى التي تراجعت أمام ذلك الزخم من الضجيج الإعلامي الذي يروج للجوء الطرفين: واشنطن وطهران إلى خيار واحد، ليس أمام أي منهما سواه وهو الحرب.
في البداية، لا بد من رفع علامة سؤال مهمة، هل تنحصر الحروب بين قوتين أو دولتين في المواجهة العسكرية بين جيوشهما، أم أنّه مع تطور العلاقات الدولية، باتت هناك أشكال متنوعة ومتعددة من الحروب التي ليست بالضرورة قائمة على المواجهات العسكرية المباشرة بين أطرافها المعنية.
فهناك الحروب غير المباشرة التي بات يطلق عليها الحروب بالوكالة، التي يستخدم كل طرف من القوى المتصارعة في حلبتها، قوى أخرى تربطه بها علاقات إيديولوجية، أو مصالح اقتصادية، تجيز لطرف ما الاستعانة بطرف الآخر، مستخدما تلك العلاقة التي تدفع ذاك الطرف إلى الدخول في معركة بالنيابة عن الطرف الآخر.
وهناك نمط آخر من الحروب غير المباشرة التي يطلق عليها الحروب بتقاطع المصالح، التي رغم تشابهها مع الشكل الأول المشار لها أعلاه، لكنها قد تندلع دون أن يكون هناك اتفاق مباشر بين الأطراف الضالعة في الحرب التي تتقاتل جيوشها فوق ساحاتها، ودون أن يكون لأصحاب تلك الجيوش مصلحة مباشرة مشتركة ملموسة تجبرهم على خوض تلك الحروب.
ثمّ هناك حروب القوة الناعمة التي تصاعد حضورها، ومن ثمّ تأثيرها على موازين القوى بين الأطراف المتصارعة، والتي تنوّعت أشكالها، فمنها الدبلوماسي، ومنها الثقافي، بل وحتى الإيدلوجي، أو ما يمكن أن يطلق عليه العقائدي. في تلك الحروب يحرص كل طرف -قدر الإمكان- على تقليص اعتماده على قواته العسكرية في قلب موازين القوى لتحقيق النصر المطلوب، والاستعانة، بدلا عنها، بقواه الناعمة التي ترتكز على أي شيء سوى ذلك القائم على القوات المسلحة.
ولو عدنا إلى سيناريوهات الحرب المنتظرة بين طهران وواشنطن، فسنجد أنّها، لم تندلع بعد على الصعيد العسكري، لكنها قائمة، بين الطرفين، وعلى وجه الخصوص، منذ نجاح الرئيس رونالد ترامب في انتخاب الرئاسة الأمريكية الأخيرة. وتتجلى معالمها في أكثر من مكان، لعل الأبرز بينها المنطقة العربية، وتحديدا في سوريا والعراق، وإلى حد بعيد منطقة الخليج العربي. ومن المتوقع أن تستمر هذه الحرب التي يمكن أن نطلق عليها صفة الحرب الباردة، بين الطرفين، ما لم تبرز ظروف مختلفة، ليست قائمة الآن ، تدفع الطرفين نحو مواجهة عسكرية ضارية تحقق في فترة زمنية قصيرة الانقلاب في موازين القوى، فتبيح للمنتصر أن يفرض شروطه على الطرف المنهزم، التي لم تحققها استخدامات قواه الناعمة.
هذا المنطق يقودنا إلى نفي احتمال اندلاع حرب عسكرية بين الطرفين في فترة قصيرة قادمة. وعلى من يتوقع ذلك أن ينتظر تغيرًا جذريا في الظروف التي تدفع نحو ذلك النوع من الصدام بين طرفي الصراع: الولايات المتحدة وإيران.
يدفعنا قول ذلك، ووصف الحرب بين طهران وواشنطن بالمنتظرة مجموعة من الأسباب المتداخلة بين عسكري واقتصادي وسياسي، يمكن إجمال الأبرز فيها، والأكثر حضورا بينها في النقاط التالية:
- المشكلات الداخلية التي تكاد أن تعصف بالدوائر الحاكمة في البلدين، بشكل مستقل. فمن يتابع أخبار تطورات تلك الأوضاع يلمس دون حاجة لبذل أي عناء أن كليهما يواجه عواصف داخلية عاتية، لا تبيح له الدخول في حروب مواجهة عسكرية خارجية، قادرة على مساعدة لوضع حد لتلك العواصف، أو منعها من التصاعد.
- الكلفة الباهظة التي سيتكبدها كل طرف، حتى ذلك المنتصر، والتي يصعب أن يتحملها في هذه المرحلة أي من الاقتصادين. والمسألة لا تقتصر على عجز في هذه الميزانية أو تلك، بل تتجاوز ذلك كي تمس صلب العلاقات الاقتصادية التي يملكها هذه الطرف أو ذاك على الصعيدين الإقليمي - أمريكا اللاتينية بالنسبة لواشنطن، والشرق الأوسط بالنسبة لطهران – والتي ليس من الحكمة تحريك مياهها في اتجاه مواجهة عسكرية في هذه المرحلة.
- الظروف الذاتية المحضة، لكل من الطرفين على حدة، لا يمكن أن تشجعه على إعلان الحرب على الآخر، والدخول في متاهات تلك الحرب، نظرا لكلفتها الاقتصادية أولا، وتداعياتها السياسية ثانيا، ونتائجها الاجتماعية ثالثا، وليس أخيرًا. لذلك، فمن المنطقي أن يعيد كل طرف منهما حساباته ليست المبنية على تحديد من هو المنتصر أو المنهزم فحسب، بل الخسائر الفادحة، المباشرة وغير المباشرة أيضا، والتي ستقود إلى تلك النتائج، بعيدا عن النهايات التي ستحدد الطرف الغالب، أو ذلك المنكسر.
كل ذلك لا ينبغي أن يقود المتابع لما يدور اليوم بين واشنطن وطهران من تهديدات متبادلة، وضغوط غير مباشرة يمارسها الواحد منهما على الآخر، إلى نتيجة واحدة تقول باستحالة اندلاع الحرب بينهما، لكن قيام تلك الحرب رهين وبدرجة كبيرة، بتغير العوامل المحيطة بالأوضاع في كل منهما على حدة، من جانب وتحول غير متوقع في تلك المحيطة بهما من جانب آخر. وهو ما لا يلوح في الأفق في المرحلة الراهنة.
وبالتالي ستكون الحرب بينهما من الحروب المنتظرة التي يمكن للمراقب المتابع للتطورات المحتملة لمنطقة الشرق الأوسط أن يتوقعها.