الاعتذار لا يمحق الأفكار

 

د. صالح الفهدي

اعتذر أحد مشايخ الدين المشهورين المنتمين سابقاً إلى تيار مُتشدِّد عن مضامين التشدد التي حملها خطاب ذلك التيار الذي -بحسب قوله- حفل بـ"الأخطاء التي خالفت الكتاب والسنة، وخالفت سماحة الإسلام، وخالفت الدين الوسطيِّ المعتدل الذي نزل رحمة للعالمين"، خطاب مُتزمِّت، ظلامي، نصَّب نفسه ناطقاً باسم الدين، فأحال حياة المسلم إلى رجعية تنبذ التحديث والعصرنة، وتمقُت التغيير الذي يحدث في أساليب الحياة بحجة أن من يقوم بالتغيير هم "الكفار"، بينما يستخدم أدواتهم لنقل رسائله الظلامية، وأفكاره السامة!

لا يهمُّني في هذا المقال الاعتذار، فالاعتذار لا يمحق الأفكار، ولا تهمني أسباب الاعتذار؛ لأنَّ الإشكالية أعمق من اعتذار لفظي؛ إذ إنَّ الواقع الذي أصبح عليه المسلمون اليوم واقعٌ لا يحسدهم عليه أحد؛ تزمت باسم الدين، واستبداد باسم السياسة، فهم بين المطرقة والسندان.

لقد كتبت مُنذ عدة سنوات مقالاً أحيل القارئ إليه بعنوان "دواعش فكرية"، وفيه قلت إنَّ القضاء على الأفكار ليس في أرض المعارك، وإنما في العقول؛ فمن حولنا تعشِّش الدواعش الفكرية التي تنتظر لحظات الوهن والضعف لكي تطل بمشارطها وأمواسها وراياتها السوداء على السطح!! ذلك لأنَّ الفكر السام قد تخلل شعاب بعض العقول فأصابها بالسقم الذي يصعب استشفاؤه إلا بتكثيف علاج ومراس طبيب، ونية صادقة، وإرادة فاعلة، ومناهج وسطية.

الدين الذي أدركنا جوهره، وفقهناه منذ نعومة أظفارنا هو دين الفطرة السمحة، دين الابتسامة، والنوايا الحسنة، والظن الجميل، وغير ذلك مما يرتبط بجوهر الدين الحق، في حين كانت بعض العقول التي اختطفت الخطاب الإسلامي -بتعبير الحبيب علي الجفري- قد أحالت الدين إلى طريق آخر، ونسبته إلى السيرة النبوية السمحة، ثم أظهرته كالحاً، متجهماً، قاسيَ الملامح، لا ترى فيه إلا الجهامة وابتسار القسمات، ولا تسمع منه إلا تهديد العقاب والعذاب، دين الغلظة، والشدة، والبؤس.. منعوا الابتسامة على الوجوه، مزقوا صور الذكريات الجميلة، حرموا المباحات، وكفروا خلق الله ممن يشهدون بالله ربًّا وبنبيه هادياً ورسولا!

الاعتذار لا يمحق الأفكار؛ لأنها صدأت في النفوس، وتعفنت في العقول، وتتبعوا تجدوا أن تفجيرات تقع هنا، ومذابح تقع هناك تجدون أن وراءها فكرًا ظلاميًّا، لا يعترف إلا بظلاميته، ودون ذلك السحق والمحق لكل ضال!

لقد حذَّر من حذر من أهل الإصلاح والغَيرة على الدين والوطن بأنَّ الأفكار التي سمَّمت نهر الدين القراح إنما حولته إلى لون أحمر قاني بسبب المجازر التي ارتكبت بذريعة نصرته، وإعلاء شأنه..! وما كان لراية الحق أبداً أن تعلو فوق حطام الأجساد البريئة، فماذا لقي أولئك المصلحون؟ ليس إلا الحراب السامة، والأسهم القاتلة من أولئك الذين يدعون التدين بحجة أنهم فسقة، جرفهم الضلال بعيداً عن فهم الدين!

يعتذرون اليوم بعد أن دفعوا الشباب الغض إلى ساحات الجهاد الزائف حتى دمرت أوطان، وتشردت شعوب، وهم في خير أحوالهم رفاهيةً، ونعومة عيش!! فمن ذا الذي يعوِّض تلك الموارد البشرية التي فنيت في مواطن الهلاك حين كان يمكن توجيهها للتنمية بدلًا من أن تشوه بفكر سام، متخلف، لا يمثل الدين في شيء؟!

يعتذرون اليوم بعد أن طَفحت السجون بشباب تذوي فيها زهرات شبابهم النضيرة، وتفنى فيه طاقاتهم الوقادة، وقد كان أولى لأولئك أن يكونوا في مواقع تدفع عجلات العمل لتحقق إنجازات عظيمة في ميادين التسابق العلمي.

يعتذرُون اليوم بعد أشعلوا الحرائق في الأمة، ودمروا مقدراتها، ووأدوا آمالها في التراب، ثم تصدروا الشاشات، واستمتعوا بشهرتهم وكأن أمراً لم يكن!

وماذا خلَّفوا؟ أمة مكلومة في دينها، وفي مصائرها، يتقاتل أبناؤها دون هوادة، تركوا شواغل التنمية والعمران والعلم والمعرفة، ووجهوا أموالهم نحو الدمار والخراب والفتك والسفك، وليتهم يعوا التاريخ الذي يحدث العاقل بما فيه من الحوادث والمصائر، إنما هي أنفس غفل، وعقول لا تشتهي إلا الغطرسة!

فإذا كان لدى الأمة ذرة من ضمير حي، فلتعمد إلى مراجعة نهجها في مسالك السياسة التي سارت عليها حتى قادتها إلى الاستبداد بمقدراتها، وإلى مراجعة مفاهيمها عن الدين الذي حولته إلى بعبع منفر يعاكس مبادئه ومثله.

اليابان التي نتغنَّى بنهضتها، وليتنا نحذُو حذوها، شهدت أعظم مجزرة في التاريخ بإلقاء القنابل النووية عليها، فماذا فعلت؟ هل تبنَّت عقيدة الانتقام والجهاد ضد الأمريكان؟ بعيداً.. بعيداً عن هذا. لقد راجعت نفسها واتجهت لإصلاح النظام التعليمي لتصبح اليوم دولة عظمى في الاقتصاد يجاور مقعدها عدوها في مقاعد الكبار!

نحن أمَّة عاطفية، تثور ثم تخمُد، فننسى ما يتوجب علينا فعله، وذلك هو إصلاح العقول التي عفنت وعطنت؛ لهذا فإنَّ التغييرات في مجتمعاتنا هي تغييرات على مستوى الوسائل وليس على مستوى الإدراك والأفكار والتوجهات!

إصلاحُ العقول يتطلَّب ثورةً فكريةً يقُودها إصلاحيون، ذوو بصائر مُستنيرة، وهؤلاء يجب عليهم أن يحملوا أولوية الإصلاح والتغيير، فلا يغمض لهم جفن من أجل تصحيح المفاهيم المعوجة التي ألقت الأمة في الضلالات... فما تدري أين طريقها!

إصلاحُ العقول يتطلب انتزاع التعليم من العقول المتعفِّنة، التي تعطلت بفعل الاستلاب والمسلمات والعجز، فيحمل مشاعله أهل فكر مُستنير، يُدركون حاجة الأمة، وأهدافها، ويرسُمون الطريقَ لتغيير مسار الأمة.

إصلاحُ العقول يتطلب القطيعة مع الأفكار المُضلِّلة في الموروث الديني والسياسي والثقافي والاجتماعي، ونخلها لانتقاء الصالح منها، والبناء عليه، فوالله لن نتلمَّس طريقَ المستقبل ما دُمنا نحصر تفكيرنا حصراً على ما أنتجه الأولون من صالح وطالح، فنُصبح ونمسي عليه!

إصلاح العقول يتطلب أن نتجرد من عواطفنا، وأهوائنا، لننقد أنفسنا، وطرق تفكيرنا من أجل أن نعيد تشكيلها، وضبطها، وتوجيهها نحو مسار الحضارة.

فهل تعي الأمة ذلك "أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (محمد:24).