حاتم الطائي
فاتحةُ الكتابِ أو السبعُ المثاني أو أمُ الكِتابِ، هي أوَّل سورةٍ يَقرؤها المُسلمُ عندما يُمسكُ بكتابِ اللهِ ويُرددها في صلاته كل يومٍ، خاصةً وأننا في شهر رمضان المُبارك نُكثر من قراءة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفهِ، كما إننا نقرأ الفاتحة في كل ركعةٍ من صلواتنا المفروضة وغير المفروضة.
ونحنُ نعيشُ روحانيات هذا الشهر الفضيل، يجدر بنا أن نُبحر في معاني هذه السورة الكريمة، ونتمعن في دلالاتها المُختلفة، ورسائلها العديدة التي يُخاطبنا الله بها ويُريد منِّا أن نتدبرها ونُدركها كي نعمل بها وتكون منهاج حياة لنا، في إطار الرؤية العامة للقرآن الكريم باعتباره المُوجه والمُنظم لمُختلف شؤوننا.
وثمَّة محطات مختلفة أتوقف عندها كلما قرأت الفاتحة، المحطة الأولى أنَّها إحدى السور التي تبدأ بـ"الحمد لله"، ولذا سُميت بسورة الحمد أيضًا من بين أسمائها المُختلفة. وتتفرد هذه السورة بأنَّها السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي تأتي البسلمةُ فيها ضمن آياتها، فـ"بسم الله الرحمن الرحيم" هي الآية الأولى من هذه السورة العظيمة، وهي استهلال رباني تتجلى فيه معاني الألوهية لله، متبوعة بصفاته العليا واثنين من أسمائه الحسنى؛ الرحمن الرحيم، فالله سبحانه وتعالى رحمن أي ذو رحمة واسعة، ورحيم، تصل رحمته جميع خلقه وعباده.
ومن ثمَّ تأتي الآية الثانية (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لتُؤكد قيمة الحمد وشكر النِّعم في حياتنا، فإننا عندما نحمد الله ونشكره على نعمه، يزداد مُعدل الرضا في نفوسنا، فالحمد دليل الرضا، والرضا ناتج عن القنوع، والقنوع منبعه طيب النفس، وهذا ما يُريده الله منِّا، أن تكون نفوسنا طيبة، راضية بما قُسّم لها من خير وفضل، مع الوضع في عين الاعتبار ضرورة العمل والأخذ بالأسباب، حتى لا يقع الإنسان منِّا في فخ "التواكل". وثمَّة فارق هائل بين التواكل والتَّوكل، فالأول يعني الاتكالية وعدم الاعتماد على النَّفس في شؤون حياتها، بينما التوكل خُلق عظيم، حيث يُؤدي المرء ما عليه من واجبات ومسؤوليات بكل طاقته، ثم يتوكَّل على الله. وقضية التواكل هذه نُعاني منها في مُجتمعاتنا نتيجة لسوء فهم البعض، فهناك من يعتقد أنَّه يُمكن أن يأتيه الرزق دون سعي في الأرض، ودون عمل مُتواصل وجهد طويل، وهذا فهم خاطئ بل ومرفوض في ديننا الحنيف، فجميعنا قرأ أو سمع الحديث النبوي الذي يقول: "لو أنَّكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً"، الطير يُعلمنا درس الحياة الأول، وهو درس السعي، ويغرس فينا قيمة العمل وأهميته للفرد، فبدون العمل لا جزاء ولا ثواب ولا رزق.
وتعود بنا سورة الفاتحة في آيتها الثالثة (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) لمزيدٍ من التَّوكيد على أنَّ الله الإله الخالق، رب العالمين، رحمنٌ رحيمٌ، تتنزل رحماته على عباده وخلقه، فينعمون بها ويسعدون، شريطة أن يؤدوا ما عليهم من فروض وواجبات ومسؤوليات. وهذه المسؤوليات والفروض يخطئ من يظُن أنَّها تعبدية وحسب، بل هي في الأصل قائمة على المُعاملات والسلوك الإنساني في الحياة الدنيا، فالدينُ المعاملة يقتضي منَّا أن نُحسن التعامل مع الآخرين، وأن نُقابل السيئة بالحسنة التي تمحُها، وأن نُخالق النَّاس بالخلق الطيب الجميل الذي لا فظاظة فيه ولا تبجحا. وهنا نُشير إلى دور الأخلاقِ الحسنةِ في تأهيل الفرد وتنميته، حتى يُحقق العديد من القيم التي يجب أن يتحلى بها المرء، ومنها قيمة التسامح. وهذه القيمة لا تعني مطلقاً السلبية أو التنازل عن الحُقوق، بل تتجسد في معانٍ أعمق من ذلك، فالتسامحُ هو أن نتعاون مع زملائنا في العمل كي نُحقق أعلى معدلات الإنتاج، والتسامح أن نؤسس لعلاقات إيجابية مع الجميع، وأن يُحسن الزوج إلى زوجه وأبنائه وبناته.. كل ذلك ترجمة لما تحمله كلمة التسامح من معانٍ، لأننا في حقيقة الأمر لسنا سوى خلق الله نأتمر بأمره وننتهي عند نواهيه، فهو رب هذا الكون الفسيح وخالقه.
وهذا ينقلنا إلى الآية التالية (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، وهي إقرار من كل مُسلم يقرأ هذه الآية بأنَّ الله رب العالمين والرحمن مع عباده والرحيم بهم، هو من سيحكُم بينهم يوم القيامة، أي أنَّ الله العدل هو الذي سيُقيم ميزان العدالة في الآخرة، وهو اليوم الذي سيفصل الله فيه بين النَّاس فيما كانوا يختلفون حوله في مُختلف القضايا، بدءًا من قضية الألوهية ذاتها، وحتى أصغر المسائل التي يتجادل حولها النَّاس الآن. وهنا توجيه قرآني بأن نؤمن جميعاً بأنَّ الله الذي بيده كل شيء هو الذي سيحكم بيننا في الآخرة، فلماذا نخوض في الخلافات مع الآخرين دون جدوى ترجى، وفائدة تعود علينا بالنفع، فالكثير من الجدل الدائر في العديد من القضايا ليس سوى إهدار للوقت والجهد، والمجادلة التي لا تُفضي إلى نتائج إيجابية ونقاش مُثمر للطرفين، إنما هي جدل عقيم، وأن من يشغل نفسه ووقته وذهنه بأمور أخفاها الله عنَّا لحكمة لا يعلمها إلا هو، فإنما يمضي في سراب ولن يصل إلا إلى طُرق مجهول آخرها.
ومن هنا لا مناص أمام البشر إلا العبادة الحقَّة، ولذلك تأتي الآية (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وما أروع هذه الآية واستخدام لفظ "إياك" فيها، والمُتعمن في هذه الآية يُدرك ما فيها من عبادة لله الواحد، وأنه لا إله إلا الله يُمكن أن نعبده ويُمكن أن نستعين به، فهو المعبود الحق والمُعين الأكيد لكل إنسان في كفاحه ومسيرته في هذه الدنيا، ولذلك تُبعت هذه الآية بقوله تعالى (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، والتي جاءت بعد ما سبق من آيات يُثني فيها المُسلم على الله رب العالمين، الذي هو وحده قادر على هداية الإنسان للصراط المُستقيم. وهذا الصراط المُستقيم يمثل مسار النجاح للفرد، وطريقه إلى النجاة، ودربه الذي سيُوصله إلى ما يصبو إليه من نجاح وفلاح في الدنيا والآخرة. وهذا جانب عظيم من جوانب ديننا، أننا نمارس الشعائر والعبادات المُختلفة، كي ننال رضا الله في الدنيا والآخرة، وهذا الرضا دليل على قبول العبادة والعمل الصالح.
(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)، كانت هي الآية الخاتمة لسورة الفاتحة، وما أجمل معاني هذه الآية التي تشتمل على معاني الهداية والثبات والعمل الصالح، فالمُسلم يدعو الله في هذه الآية أن يهديه الصراط المستقيم، ذلك الصراط الذي سار عليه من أنعم الله عليهم من الأنبياء والصالحين، الذي هداهم الله للحق ولطريق الصواب، وليس صراط المغضوب عليهم بسبب سوء أعمالهم، ولا الضالين الذين ضلوا طريقهم ورفضوا اتباع الحق تكبرًا وتعنتاً وكبرياءً.
إنَّ سورة الفاتحة تحمل القيم العليا في ديننا الحنيف، وترشد الإنسان إلى ما يجب عليه فعله وترك ما نُهي عنه، وإذا ما حقق الإنسان ذلك فإنِّه سيسعد في حياته وسينال رضا الرب في آخرته..