لا عماني في الأحمدي

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

العماني من أكثر الشخصيات التي تتعرض لمُحاولة التنميط في المنطقة؛ ولكن هذه النزعة لتنميط العُماني من أكثر من جهة لم تحظ بمحاولة للقراءة والتحليل؛ ولكن حادثتين حدثتا مؤخرًا تدفعنا إلى القيام بمُحاولة لتفكيك بسيط لهذه العملية التنميطية للعُماني؛ الأخيرة هي إظهار العُماني "في صورة الخادم" في مسلسل "لا موسيقى في الأحمدي".

أما الأولى فكانت التَّغريدة التي نشرها رجل الأعمال الإماراتي خلف الحبتور عن حارس المدرسة أو الباحث في مجال التَّاريخ والذي استقبله على خلفية نشره كتابًا في التاريخ، وخرج يومها بتغريدة تحمل محتوى تنميطياً هو نفسه الذي أرادت كاتبة المُسلسل تصويره وهو ارتباط العماني بمستوى مهني بسيط يجعله في حالة عجز عن أن يتساوى مع الآخرين الذين يعيش معهم في نفس المنطقة التي تتمتع بثروات نفطية؛ وصناعة هذه الصورة الذهنية عن العُماني وتكريسها عبر أكثر من مستوى سياسي واجتماعي وثقافي وإعلامي ودرامي لابد أن تُقرأ بطريقة مختلفة بعيدة عن جعل الأمر مجرد أحداث وتفاصيل عابرة لا يربطها رابط، ولا تقف خلفها نوايا سلبية، فهذا هو الغرض الحقيقي لأيِّ صورة منمطة أو سلبية لفرد أو جماعة أو شعب أو دولة وهي أن تقبل على أنَّها حقيقة ولا يجب أن تتحدى أو أن تقاوم أو تُرفض، تحت مبرر تاريخي حيث لا يُمكن تبديل الأحداث، أو تحت مبرر واقعي له شواهده التي لا يُمكن تغييرها، وذلك هو الاجتزاء الذي نواجه نحن كعُمانيين في تنميطنا بصور أصبحت تعميمات يعتقد البعض أنها تنطبق علينا، وتجعلنا خاضعين لها، ولا يُمكننا الهروب منها، وحتى نتحدى هذه الصور النمطية لنا لابد أن نُحددها، ونُحدد المصدر الذي صنعها.

المُتأمل للصورة النمطية المكونة عن العُماني؛ يجد أنَّها لا تخرج عن صورتين متناقضتين في كثير من الجوانب؛ وكلا الصورتين كونهما الآخر وعمل العُماني على تأكيدهما وتكريسهما؛ الصورة الأولى هي صورة العاجز الضعيف مادياً نتيجة ضعف في الرواتب أو تدنٍ في مستوى الوظائف التي يعمل بها العُماني، وهذه الصورة لها جذورها التاريخية القصيرة الممتدة إلى ما قبل 1970 حين عمل العمانيون في بعض الدول الخليجية في وظائف ذات مستويات مختلفة عليا ودنيا ومع ذلك اجتزأت من الصورة التفاصيل التي تعطي إيحاءات سلبية أصبحت الذات الاجتماعية في الخليج تتعالى عليها وإن ظل كثير من أهل الخليج يعملون فيها.

وأذكر في إحدى السنوات كنت في مُؤتمر في البحرين، وحين كان السائق يأخذني في جولة ومررنا على أحد الشواطئ المردومة قال لي هنا كان العمانيون يُقيمون في غرف متواضعة مبنية من سعف النخيل، ولمست يومها من كلامه لغة تنميطية فيها نزعة سلبية، ورغم تبدل الأوضاع خلال الخمسين سنة الماضية إلا أنَّ هذه الصورة لم تتغير والدليل ما ضمنته كاتبة مسلسل لا موسيقى في الأحمدي، فهي وغيرها لا يأخذون الأمر من منظور الكدح والنضال الذي قام به الإنسان العُماني وغيره من أبناء الخليج حتى اليوم من أجل كسب لقمة العيش، إنِّما يعبرون من خلاله عن تلك الصورة النمطية المُختبئة في عقولهم ووجدانهم والتي عملنا نحن على تكريسها خاصة في فترة التسعينات عندما بدأ التعمين ويومها كانت قطاعات كثيرة يُمكن أن تستوعب الشباب في مهن ذات قيمة وظيفية عُليا، ولكن أصر المسؤولون يومها على البدء بمحطات تعبئة الوقود وغيرها من المهن المتواضعة سعياً منهم ليس للتعمين إنِّما للحصول على الإطراء بتفرد النموذج التنموي والدليل على ذلك أنَّهم كانوا يطربون كثيرا لكلمات الزائرين لعُمان حين يجدون شاباً عمانياً يعمل في محطة بترول أو شابة عُمانية تعمل نادلة في مطعم فندق، وبمرور الوقت أصر الشباب على العمل في وظائف تتفق ومؤهلاتهم العليا فكرياً وعملياً.

أما الصورة النمطية الثانية فكان مصدرها داخلي وهي العماني القديس الذي لا دخل له بشيء، لا يرتكب خطأ، ولا يدخل في حوار، ولا رأي له في أيّ قضية، صامت على الدوام، حتى إذا تجنى عليه الآخرون لا توجد لديه ردة فعل، ولا موقف، لا يخترق القانون، قانع لأبعد درجة، يفرح بالمشاركة في أي حدث حتى وإن لم يتمكن من المنافسة، وتمَّ تكريس هذه الصورة من خلال الآخرين الذين وصل بهم الأمر في تكريسها لدرجة الإسفاف، وجعل بعضهم يستخدم لغة في توصيفها مسيئة أكثر من كونها داعمة، حين يُعبر عن دهشته لما يشاهده وكأنه يكتشف شعبًا لا يزال يعيش في أودية وقرى جبال الحجر في تلك الأزمنة الغابرة أو كأنه يكتشف شعباً غير معروف لا يزال يعيش في الكهوف، هذا وهو يتردد على البلد مرات ومرات، ولكنه عزف على وتر يطرب له كثير من العُمانيين، قال لي مؤخراً أحدهم ظهر على التلفزيون العُماني سوف أصبح مشهورًا عندكم، لأنه تلى نفس الكلمات التي يتلوها الجميع ممن مرَّ على بلدنا، بعضهم ظفر بمكانة كبيرة نتيجة لذلك لدرجة أنه أُقل بطائرة خاصة إلى بلده وهم محاضر مغمور أما بعضهم فلم يصب ما كان يرمي إليه، هذه الصورة تحولت إلى ما يشبه السجن للشخصية العمانية التي أصبحت تشعر بالذنب لو تكلمت أو عبَّرت عن موقف تجاه ما يجري من أحداث، لأنَّها تشعر أنها تخرج من عُمانيتها وانتمائها.

وأمام هاتين الصورتين صورة الضعيف المستضعف التي يروج لها الآخر في المنطقة ويعمل البعض على تعزيزها داخلياً، وصورة القديس التي أنتجت داخلياً وعززت خارجيًا؛ تظهر صورة أخرى للعماني وهي صورة المتمرد حيث يجد نفسه أنَّه بخلاف ذلك، وأن له شخصية مختلفة تماماً قوية في مواضع القوة، منفعلة في مواقف الانفعال، متفاعلة مع الأحداث لها موقفها القوي، ولها سماتها وجوانب قوتها، وفكرها وعبقريتها وتفردها في المنطقة، كادحة مُناضلة ولكنها لا تختلف عن غيرها من شعوب منطقة الخليج في تأثرها بما نتج من عصر النفط، شخصية متفوقة، جادة، وبالتالي كلا الصورتين لها مرامٍ وأهداف تود تحقيقها ولذا لابد من تفكيكها وتوضيحها وتوضيح الآثار السلبية لها، خاصة في ظل البحث عن المُستقبل عبر رؤية 2040، والذي لن يكسبه ويصنعه إلا عُماني يكسر أولاً هذه الصور النمطية التي تُريد أن تعيقه وتجعله مشلولاً عن إنتاج نفسه التي يطمح إليها.