قراءة جيوستراتيجية في التطورات العربية الأخيرة

إدريس هاني

 

المرتكزات النظرية السبعة

 

فيما سأذكره من مرتكزات منهجية وفلسفية لا أتحدّث عن حصر عقلي وإنما أتحدث عن عيّنات مستقرأة من تراكم كبير من استقراء الواقع واختبار النظرية، لذا ستجد في كلّ مناسبة قد أذكر بعضها وفي أخرى أذكر أقل أو أكثر من مرتكز بحسب ما هو ملحّ في تدبير مواضيعنا. وهنا سأذكر سبعة، وكما قلت، فإنّ السبعة ومشتقاتها كالسبعين والسبعمائة هي عنوان كثرة مفتوحة من دون حصر، وقد بدأنا بالتبرّي من معرّة المعري الذي علّق التحدّي على الإتيان بسبعين اسما للكلب وبنينا عليها تحديا آخر هو معرفة سبعين منقلبا للمفهوم والآن سأتحدّث عن سبعة مرتكزات بها أسوس هذه المقاربة وسائر المقاربات وهي:

1 - الحدس أهمّ من النّظرية:

وكونه كذلك فهو يعني أنّه أصلّ النظرية نفسها. وقد عرض السُّبات على العلوم فاستغرقت في النظرية وأهملت الحدس وأحيانا تمّ تهميش الحدس الذي هو محرّك العلوم والحضارات، فهو يملأ العالم مثل الجاذبية أو الثقالة. إنّ النظرية عارضة والحدس أصيل، ولذا فإنّ عمر النظرية قصير جدّا. وسننصت لرياضي كبير وهو يرسم مراحل لعمر النظرية من الميلاد إلى الموت، وأعني به بوانكاريه حين يرى النظرية تولد اليوم وغدا تصبح موضة وفي اليوم الثالث تصبح كلاسيكية وفي اليوم الرابع تصبح متخلفة وفي اليوم الخامس تُنسى..عمر النظرية إذن قصير بل يمكن القول إن لها زمنا محددا هو زمن فاعليتها وتدبيرها. ليس للحدس تاريخ ولكن هناك تاريخا للنظرية، فالحدس باقي على طراوته ولا نستطيع أن نعطي لعصرنا الريادة في الحدس فالإنسان وفي كل العصور وربما في العصور السابقة كان أقوى حدسا من الآن وربما ما نفعله في عصرنا هو حصيلة حدس الماضي.

تضمحل النظريات ويبقى الحدس يتمتّع بطراوته، وهي الطراوة التي يجب العناية بها، يمكنك الاستغناء عن النظرية ولكن لا يمكن الاستغناء عن الحدس. اعطني حدسا وخذ كل النظريات. ومن خلال الحدس تستطيع إعادة الحياة النظرية من جديد لكن لا يمكن أن تكتسب من خلال النظرية حدسا. ويحصل هذا في العلم كما يحصل في السياسات، بل في السياسة كل النظريات تختلف عن الأخرى ولكنها كلها تحتاج إلى حدس يربط بين الأحداث.. وسأظهر لك من خلال مثال يتعلق بالمجال الجيوستراتيجي الذي سنتحدّث عنه بعد قليل، كيف أنّ الحدس والخيال كان خلف حدث دولي كبير في معادلة الصراع الاستراتيجي، كيف استلهم رونالد ريغان من فيلم سينمائي فكرة حرب النجوم:

يحاول فرد كابلان أن يصوّر الوضع في كتابه (المنطقة المعتمة: التاريخ السري للحرب السيبرانية)، كما لو أنّ خاطرة داهمت رأس الرئيس الأمريكي الأسبق والمولع بهوليود، أثناء استرخائه وهو يشاهد فيلم ألعاب الحرب بطولة ماثيو برودرك، حدث هذا سنة1983، محتوى الفيلم أن مراهقا مولعا بالتكنولوجيا يخترق من دون قصد الحاسوب الرئيسي لقيادة دفاع الفضاء الجوي للولايات المتحدة الأمريكية وفي محاولة إنجاز لعبة حاسوبية جديدة كاد يتسبب في حرب عالمية ثالثة. يعقد بعدها ريغان اجتماعا في مكتبه حيث كان همه البحث فيما لو كان هذا الأمر ممكنا في الواقع. ربما كان التساؤل يومئذ بسيطا حين أعلن الرئيس عن حرب النجوم غير أن فكرة الحواسيب ظلت أمرا واقعا اليوم، بينما الحكاية لم تكن أكثر من حدس وخيال.

يتعين إحداث ثورة في عالم المفاهيم، فالأخطاء الشّائعة على مستوى تداول المفاهيم أفسدت العلم وشوّشت على مسارات تولّد الحقيقة. نسمع كلاما هنا أو هناك يقول: هذا الأمر ليس أمرا برهانيا، إنه مجرد تخمين، خيال، مجرد فرضية. وهنا لا بدّ أن أؤكّد على أنّ الحديث عن الفرضية بهذا النمط من الاختزال والتهوين هو أمر بالغ السذاجة، فحين يقول الرياضي - ووحده له الحقّ في أن يقول ذلك - هذا مجرد فرضية، فهو يقصد أننا في الخطوة الأولى التي تسبق البرهنة، ولكن هذا لا يعني أنّ الحدس في القيمة الوجدانية أقل من البرهان، لأنّ هذا الأخير هو محاولة للإقناع فقط. فالنتيجة المستنتجة لا تزيد الفرضية أي جديد بل تمنحها قواما استدلاليا، تلك حاجة المتلقّي. وعليه فالعلم يبدأ من الفرضية، والحدس هو من ينتج الفرضية وهو لا يتوقف عند الفرضية بل يحضر في كل مراحل النظر والبحث والاستنتاج، فالانتقال من الخاص إلى العام هو رهين لهذا الحدس. إنّه هو نفسه من يشدّ عصب المقدّمات المنطقية، لأنّنا إن أردنا مزيدا من القول فإنّ عدد المقدمات في الدليل البرهان لا حدود لها، والذي يحدها هو المتلقّي الذي يتحقق لديه الإشباع الدّليلي، وهو إشباع غير محدد بمقدمات معينة، وذلك بحسب منسوبه من العلم أو الجهل، فكلما علم قلت المقدمات والوسائط وكلما جهل تكاثرت الواسطة في الإثبات ومسيرة العلم تبدأ من الحضوري إلى أقصى الحصولي، ومن النقطة حتى أقصى الكون، فإن لم يتحقق الوجدان بدء من الحدس فتلك مشكلة المتلقي. بل ثمة ما أضيفه هنا، فإنّ الحضوري ليس جنسا مخصوصا للخاصة به تندك الواسطة بين الذات والموضوع بل أعتبر أن العلم حتى في مقام الحصولي لا يتحقق إلاّ بعد أن يتحول البرهان إلى حدس حضوري، وهذا التعبير المفارق إنما هو مجاز أقصد به أنّ البرهان سيعيدنا في نهاية المطاف إلى البدايات معززا الفرضية ومانحا إياها سلطة الحقيقة المستنتجة، فالتعلم يقوم على التكرار والاستيعاب يبدأ بطيئا من الناحية البيداغوجية ولكن ما أن يأنس المرء بالفكرة حتى تقفز وتستغني عن كل المقدمات وتصبح حضورا محض. وهنا لا يكون البرهان سوى تمرين للعودة إلى المعرفة الحضورية، بل إنّ البرهان في النهاية يخدم الحدس، فنكون أمام حدس مسبق وحدس مؤجّل يعزز الفرضية ويمنحها صفة الاستنتاج المنطقي..فالفرق هو استغناء الحدس عن المقدمات بينما في نهاية المطاف يتحلل الاستنتاج من المقدمات، فيتحقق العلم وهو الغاية.

منح بوانكاريه الحدس دورا كبيرا في مجال العلوم، فالحدس في نظره مفيد للطالب وهو أكثر نفعا للعالم المبدع، فالمنطق هو أداة البرهان بينما الحدس هو أداة الإبداع.ولديه ما هو حقيق بالتّأمّل، فالعقول لم تتغير وإنما تغيرت الأفكار، ويؤكد على أن العقول الحدسية ظلت كذلك عند الرياضيين لو لا أنّ قراءهم فرضوا عليهم كثيرا من التنازلات. وأعتقد أن ما ذهب إليه بوانكاريه غاية في الدقة، فنحن في تعاطينا مع الفكر نشعر أنّ القارئ يفرض دائما تنازلات. وفي سياق هذه التنازلات تعطّل مفاهيم كثيرة وتندثر حقائق كثيرة ويحصل سوء فهم كبير دائما. وبالعودة إلى بوانكريه فإنّ الحدس لا يمكن أن يورثنا اليقين، والحقيقة حين وقفت على هذا الحكم تزلزلت ثقتي ببوانكريه لولا أنه سيستدرك على ذلك بوجود استثناء، وذلك حين ميّز بين مستويات الحدوس ومنح لحدس العدد الخالص كل الثقة في جلب اليقين. لقد أنقذ الموقف لكن فكرة التقسيمات هذه هي الأخرى تتطلب تأمّلا إضافيا لأنّ ما سماه بوانكريه أنواعا للحدس هي مستويات من الحدس الذي يتأثر هو الآخر بمحيطه الموضوعي، فالحدس واحد وبسيط وفي حالة تراتبية "تشكيكية" أي ما يقصد به في مصطلح الحكمة القديمة أنّ الازدياد والنقصان هنا تشككيان بمعنى ما به الاختلاف هو ما به الاشتراك..لأنّ هذا يستدرجنا إلى السؤال: هل الحدس يُخطئ؟

في نظري إنّ الحدس لا يخطئ لأنّه يحسب الحالات الموجودة ويمنح النتيجة، هو لا يخطئ لأنّه كالخيال عند ابن عربي لا يخطئ، لأنّ عالمه هو عالم الصور. وهذا ما اكتشفته في مجال البراهين أيضا، كنت أدرس ظاهرة الخطأ في البرهنة في زمن مبكّر وسأكتشف بأنّ بعض الأخطاء التي قد يقع فيها الإنسان في سبيل حلّ معادلة رياضية ليست أخطاء عادية، وإنما كل استنتاج هو مرتبط بحدس يؤمن الانتقال من مقدمات إلى أخرى أحيانا يطوي في طياته بعضها كأن يقفز على أكثر من مقدمة. وربما قوة التجريد نفسها تجعل الرياضي وهو يحاول حل معادلة رياضية يمارس تجريدا داخل التجريد بحيث يعيد بناء المعادلة بطريقة أخرى ويعمل على تحليلها.. هو لم يخطئ بلحاظ المبنى الثاني المتخيّل، يسمى هذا ذهول، التباس، تهيّؤ، سوء فهم..لذا كنت دائما أرفض أن أسمي ذهول الرياضي خطأ وإنّما الأفضل القول: مسألة تدبير. إنّ الشرط الوحيد أن يكون المرء رياضيا، وهو يستطيع أن يصحح ما انتابه الحدس من تأثيرات واقعية.. يستطيع الحدس حتى حين يكون البرهان بصدد اختبار الفرضية أن يُراقب سير البرهان ويحدس ما يبدو ذهولا..لذا فالرياضي رياضي وقيمته الحدسية فيما يصيب فيه وفيما يسمى خطأ على السواء.

في سائر العلوم يلعب الحدس دورا أساسيًا، وحين تنغلق النماذج وتتصلّب النظرية فإنّ الحدس هو من يقاوم ويقتحم الآماد الجديدة للمعرفة.. وفي السياسة والحرب والاستراتيجيا يلعب الحدس الدور الأكبر .. فالعالم لم يبلغ نهايته وسوف نجد أنّ فعل توازن القوى وسياسة إرساء مستوى من التّردد في الخطط الدولية نابع من أنّ السياسة مجال أوسع للحدس أكثر من النظرية، ولكن هذا لا يمنع من مقاربة النظرية بالشكل الذي لا تلغي فيه الحدس وما يختزنه من إمكانيات لتجاوز النّسق. إنّما يجب أن نمنح أهمية كبيرة لحدوسنا، بينما تسعى الخطط الجيوستراتيجية أن تقوّض قدرتنا على الحدس، إنّ أكثر الخطط الإمبريالية إنما أسقطها الحدس حين نكون مضطرين أن نصدّقه ولا نجد بديلا عنه، وهو ما أسمّيه اللحظة التاريخية الحرجة التي تتصالح فيها الأمم مع طبيعة الأشياء.. يتبع..

تعليق عبر الفيس بوك