تجليّات الحكمة السامية

حاتم الطائي

 

التوجيهات السامية تستهدف جذب الاستثمارات لتعزيز النمو الاقتصادي

القطاع اللوجستي قادر على استقطاب رؤوس الأموال بفضل المزايا الاستراتيجية للسلطنة

الحكمة السلطانية منبعها ربّاني.. والرؤية السامية تنطلق من وهج البصيرة

 

التأكيد السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه- بضرورة تهيئة المناخ المناسب لجذب المزيد من الاستثمارات؛ برهان ساطع على ما توليه القيادة الحكيمة من اهتمام وعناية بهذا الجانب الحيوي، إيمانًا بدور الاستثمارات في دعم النمو الاقتصادي وخلق وظائف جديدة، وإنعاش الحركة التجارية والاقتصادية بشكل عام. ولقد كانت التوجيهات السامية في هذا الإطار جليّة وواضحة منذ السنوات الأولى من عمر نهضتنا المباركة؛ والتي لا تزال مستمرة طيلة ما يزيد عن 49 عامًا من العمل البنّاء والتطوير المستمر..

وهذا التأكيد من لدن جلالة السلطان المعظم- أبقاه الله- يحمل الكثير من الدلالات، أولها أنّه جاء في اجتماع لمجلس الوزراء، ما يعني أنّ مسؤولية جذب الاستثمارات ليست مسؤولية جهة أو اثنتين فحسب، بل إنّها مسؤولية الجهاز الحكومي بأكمله، وجهود الجميع لابد أن تتكاتف وتتضافر من أجل تهيئة هذا المناخ الذي يأمل جلالته أن يراه قائما في بلادنا.

دلالة أخرى تنعكس في هذا التوجيه السامي؛ ألا وهي أنّ رأس الدولة على قناعة بأنّ المناخ الحالي للاستثمار ليس هو المأمول أو ما ينتظره جلالته؛ ولذا جاء التوجيه بأهمية اتخاذ ما يلزم من إجراءات تضمن الوصول لمستوى الجذب الاستثماري الذي من خلاله تتدفق رؤوس الأموال التي تؤسس لمشاريع تعزز الإنتاجية، وتوفر فرص العمل للشباب، وترفد خزينة الدولة بعائدات تُمكّن المؤسسات من زيادة الإنفاق على مختلف المشاريع الخدمية والتنموية.

ومن هنا تأتي ضرورة تبسيط الإجراءات وإزالة العقبات البيروقراطية، فقد يحدث أحيانا أن يتم التقديم لمشروع ما قد يوفر آلاف الوظائف ولكن لا يتمكن من الحصول على التصاريح اللازمة إلا بعد مرور 5 سنوات أو أكثر! فمن هذا المستثمر الذي سينتظر 5 سنوات لبدء مشروعه الذي قد تستغرق أعماله الإنشائية أكثر من عامين على أقل تقدير؟ ثمّ ما هي طبيعة رؤوس الأموال التي ستقف في طابور انتظار لسنوات؟ الإجابة: أنّه يستحيل تواجد استثمارات مستعدة لهذه المخاطرة، فرأس المال يبحث دائمًا عن الإجراءات المبسطة ومناخات الاستثمار الجاذبة.

وأضرب مثالا هنا بالقطاع اللوجستي، الذي أعتقد بأنّه القطاع الأكثر قدرة على النمو بفضل ما تزخر به السلطنة من مقوّمات غير متوافرة بجميع دول منطقتنا؛ بدايةً من توافر عناصر الأمن والأمان والاستقرار السياسي والاقتصادي، ومرورا بالتسهيلات المقدمة في المناطق الحرة والاقتصادية واللوجستية، ثمّ انتهاء بالموقع الاستراتيجي الذي يتوسط قارتي آسيا وإفريقيا، وقربه من خطوط الملاحة العالمية.

إنّ الاستفادة القصوى من هذا القطاع من شأنها أن تفتح باب النمو الاقتصادي على مصراعيه، وتستقطب الاستثمارات من شتى بقاع العالم؛ وبالتالي سينعكس ذلك على أوضاعنا المحلية بالإيجاب، من حيث الوظائف وفرص النمو وغيرها..

ولكي نضع هذا التصوّر في عباراتٍ أوضح، ينبغي على الجهات المعنيّة تقليص فترة تخليص الإجراءات، وسرعة إنجاز التصاريح المرتبطة بالمشروع، وتخصيص قسم أو دائرة لمعالجة مشكلات المستثمرين، يتم تدريب الموظفين العاملين فيها على مهارات حل المشكلات وطرح الحلول العملية الناجزة، فضلا عن التمتع بالخبرات الكافية التي تساعدهم على تهيئة المناخ للمستثمر حتى لا يضطر للذهاب إلى دولة أخرى لا تملك حتى نصف المقوّمات التي نملكها.

وخيرا فعلت وزارة التجارة والصناعة حين دشّنت "مركز خدمات الاستثمار"، وهو المركز الذي نأمل أن يمثل نقلةً حقيقية في علاقة المستثمر الجاد مع المؤسسات الحكومية؛ تقوم في أساسها على الشراكة والتعاون، وهما القيمتان اللتان تتطلبان جهدا حتى يتم تحقيقهما وإحراز النتائج المتوقعة على صعيد اقتصادنا الوطني الذي يواصل مواجهة التحديات، ويعكس تميز الإدارة العمانية على مختلف المستويات، وليس فقط المستوى الاقتصادي.

لقد أثبتت السياسة العمانية جدارتها في مواجهة التحديات بشتى أنواعها؛ مستلهمةً توجهاتها من لدن الحكم الرشيد لجلالة السلطان المعظم- أيّده الله- والتي ترتكز في جوهرها بعد الإيمان بالله على الحكمة والبصيرة والصدق والعدالة، وهذه العناصر مجتمعة تمثل قاعدة الحكم في بلادنا منذ أن تولى جلالة السلطان المعظم مقاليد الحكم؛ فلقد حرص جلالته خلال عقود النهضة المباركة على الالتزام بها وتطبيقها في كل شؤون الدولة؛ ولذلك عندما نبحث في فكر ورؤى جلالة السلطان نجد أنّها قائمة على التقوى والإخلاص مع الخالق في تدبير شؤون الخلق، فمن كان يُصدّق أنّ عمان في عام 1970 قادرة على إحداث ذلك التحوّل الجذري وتلك النهضة غير المسبوقة في شتى مجالات الحياة؟ ومن كان يعتقد أنّ بلدا لم يعرف طريقا نحو المدنية الحديثة يصبح نموذجا يُحتذى به في التحضّر والتطوّر.. إنّه الاجتهاد السلطاني الذي أرسى دعائم دولة العدل والحكم الرشيد؛ دولة عصريّة حديثة تأخذ بعناصر التقدم والحداثة وتتمسك في مسيرتها نحو المستقبل بالقيم الدينية والحضارية التي يؤمن بها قائدها وشعبها، ولا تحيد عن إرثها الضارب في القدم؛ فهي الإمبراطورية الكبرى التي شُيّدت في قرون ماضية على ذات القيم؛ وعلى رأسها العدل.

إنّ المتأمل في تجليات الحكمة السامية لجلالة السلطان المعظم - حفظه الله- يجد مردها لقوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) فالحكمة الإنسانية منبعها ربّاني، والخير هو دلالة الحصول عليها؛ وهذا الخير الوفير يتمثل في العقلية الثاقبة والحكمة السديدة التي أدار بها جلالته شؤون الدولة الداخلية والخارجية، فتوجيهات جلالته جنّبت البلاد الكثير من المنزلقات والمخاطر؛ ففي الشأن الداخلي يُعوّل جميع أبناء الشعب دائمًا على الحكمة السلطانيّة في أي شأنٍ من شؤون حياتهم؛ والتي بالفعل تأتي منسجمة مع تطلعات النّاس وملبية لآمالهم، وكذلك الحال في الشؤون الخارجية؛ حيث نجد أنّ الجميع يسعى لمشورة جلالته؛ إيمانًا منهم برأيه السديد في العديد من القضايا؛ فالجميع يزور مسقط من أجل الإنصات لصوت الحكمة السلطانية والتعرّف على الرؤية السامية المنطلقة من وهج البصيرة.

إننا ونحن مقبلون على أعظم شهور السنة؛ شهر رمضان نسأل الله أن يبارك لنا في عمر جلالة السلطان، وأن يفتح على جلالته فتوح العارفين، وأن يفيض- جلّ في علاه- على جلالته جزيل النعم والعطايا، والحكمة والبصيرة، لكي يواصل مسيرة النهضة المباركة برضا من الله ورضوان.