عبيدلي العبيدلي
إن كان لنا الخروج بتعميم يحمل شيئا من المصداقية، وإن كانت مؤلمة، فهو أن استمرار الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في العام 1975، وما تزال تداعياتها متواصلة، أصل لانتشار مد النزعة "الطائفية" في صفوف الجماهير العربية، وغرسها عميقاً في سلوك أفرادها، ورسخها بقوة في أذهانهم. لا تصمد أمام هذا الانتشار البغيض لـ "الفكر الطائفي"، إن جاز لنا القول، هروب الكثيرين منِّا نحو الماضي، وتغنيهم بتلك "الأيام الخوالي" التي كان المواطن العربي ينعم فيها بمجتمع غير طائفي. ويستحضر هؤلاء، لإثبات ما يذهبون له، مجموعة من الحوادث المُتناثرة والمُتفرقة التي علينا أن نعترف، وبصراحة لا متناهية مع النفس، أنها كانت حالات استثنائية غير قادرة على إثبات العكس، وهي أننا كنا كمُسلمين أولا، وكعرب استتباعا، رغم كل المساحيق التي نشرناها على وجوهنا، وما نزال نُمارس ذلك، غير قادرين على مُغادرة جذورنا الطائفية، التي تشدنا نحو الخلف، وتجردنا من هويتنا الإسلامية السمحة، وثقافتنا العربية المُنفتحة، وتعيدنا، وهو أمر مأسوف عليه، إلى مجتمعات دول الطوائف المُمزقة.
قد تبدو مثل هذه الاستنتاجات مؤلمة، وقد يضعها البعض في خانات الاستفزاز، لكنها حقائق صادمة تفرض نفسها علينا، بوعي أو بدون وعي، وليس هناك من طريق للتخلص منها سوى الاعتراف بها. فهي، في نهاية الأمر، تمامًا كالأمراض الأخرى لا يُمكن للطبيب أن يصف الدواء الصحيح للتخلص منها ما لم يعترف المريض، ليس بأعراضها فحسب، وإنما بالأسباب التي تقف وراءها.
وفي حالات كثيرة نلحظ أننا نسارع إلى التبرؤ منها، وإلقاء مسؤولية الإصابة بها على الآخرين. تارة القوى الأجنبية، وتارة أخرى أجهزة الدولة، متعامين عن مسؤولية كل فرد منِّا، بما في ذلك القوى السياسية التي تمثله عن تشربنا بهذا المريض الخبيث، الذي تتجاوز نسبة وفياته حتى أمراض السرطان المُختلفة مجتمعة.
وفي البدء لا بد من التأكيد على حقيقة في غاية الأهمية تفرضها الحاجة للتمييز، بين مسألتين قد تبدوان مُتطابقتين، لكنهما، في حقيقة الأمر متضادتين، عندما يتعلق الأمر بمُعالجة قضية الطائفية. فشتان بين الانتماء الطائفي الاجتماعي المنطلق من جذور عقدية، وذلك المجير لتحقيق أغراض سياسية.
ففي الحالة الأولى، يعتبر الانتماء الطائفي بأشكاله كافة حالة صحية تحول المُجتمع إلى باقة من الأزهار المُختلفة لكل منها رحيقه الخاص، ورائحتها الفارقة التي تميزها عن الأخريات، دون أن تطغى عليها أو تزيحها من مكانها، وهي حالة نقيضة لتلك الطائفية السياسية الأنانية البغيضة التي لا تستطيع أن تتخلص من فرديتها، ولا تُريد تزيل من مخيلتها الرغبة الجامحة، المتأصلة، الهادفة إلى إزاحة الآخر، وحرمانه من ممارسة حقوقه، والتمتع بما يرغب في ممارسته، التي لا ينبغي، هي الأخرى، أن تخرج عن إطار الدستور المعمول به في بلد مُعين، ولا يحق لها تجاوز قوانينه التي تفسره.
الطائفية التي أفرزتها، أو بالأحرى أحيت قيمها الحرب الطائفية اللبنانية، ليست هي الطائفية السمحة التي يحلم بها المواطن العربي، ولكنها الطائفية البغيضة التي لا يكف عن مُحاربتها ذلك المواطن، المؤمن بتعاليمها، والمخلص لمفاهيمها.
مخاطر تلك الطائفية البغيضة، التي نشير إليها، وينبغي نبذها، تتوزع على مجموعة من المحاور الأهم بينها هي:
- المحور الفكري، إذ نجد الفئة المتنورة، والمثقفة التي يفترض أن تقود المُجتمع، النابذ للطائفية حينها، نحو محطات فكرية متقدمة، يرغمها انتماؤها الطائفي على العمل من أجل جر المجتمع وراءها كي تحصره في دائرتها الطائفية الضيقة، وتخنق أفكارها هي، بعد أن تحنط أفكار المُجتمع برمته. وبدلاً من أن نشهد نهضة فكرية تقوم على الانفتاح، نشهد نكوصًا فكريًا يبحث، بوعي أو دون وعي، عن أسوأ أشكال التقوقع، وأكثرها فتكاً بأية نهضة فكرية مُحتملة. بفضل ذلك يغفو المجتمع في سبات غيبوبة تقترب من الموت البطيء.
- المحور التنموي، الذي يأسر رواده أنفسهم، وبقرار ذاتي، في قيود الإطار النظري الطائفي المضاد، في حالات كثيرة، إن لم يكن بشكل مطلق، مع أي مشروع تنموي وطني شامل، إذ تحل الطائفة، في نظر أولئك المنتمين إلى هذه الطائفة أو تلك، مكان الوطن، فتتآكل المشروعات الوطنية، وتنكمش من آفاقها العملاقة، إلى ضيق أطرها القزمة. وتتمزق الأمة، وتتشرذم قواها التنموية.
- المحور الاجتماعي، الذي تنطلق مبادراته مما يمكن أن يوصف بدعوات الإصلاح الاجتماعي من جذور طائفية محضة، كي تحل مكان تلك التي تجاهد كي تروج لمشروعاتها الوطنية الصافية. وتنتشر برامج بضاعة اجتماعية فاسدة، تلوي رقبة التاريخ، وتزور حقائقه، كي تنجح في تجييرها لصالح مشروعها الطائفي، على حساب ذلك المشروع الوطني. فتحل الطائفة مكان الأمة، التي لا تستطيع إلا أن تتراجع أمام موجات الطائفية البغيضة العاتية. حينها يبرز الانتهازيون، ويتراجع الوطنيون، وعندها تتآكل الأمة من الداخل لصالح الطائفة.
- المحور السياسي، وهو الأكثر خطورة، وتأثيرا، إذ يجنح دعاة الطائفية وتجارها إلى استبدال البرامج السياسية الوطنية بنقيضها الطائفي، بعد أن ينجحوا في طلاء وجهها القبيح بمساحيق تجميلية لا يحسن استخدامها سواهم، ولا يتقن وضعها أحد آخر غيرهم. فتطفو على سطح الفضاء السياسي الوطني مشاريع عمل تبدو جميلة من الخارج، لكنها تخفي أبشع أشكال وصور المشاريع السياسية التي عرفها الكون، وتبنتها الأمم.
أسوأ ما يُمكن أن يُصيب هذا المقال الذي يحمل في أحشائه دعوة صادقة لنبذ الطائفية بشكل مطلق، دون انحياز لطائفة دون أخرى، هي قراءته على أرضية طائفية، عوضاً عن الاستمتاع به من منطلقات وطنية، ومن ثم تحوله، إلى أداة هي الأخرى تساهم في تأجيج نيران الحقد الطائفي المنطلق من تلك الطائفية البغيضة، بدلاً من ذلك الانتماء الطائفي الحسن، الذي لا يضع الطائفية بديلا للوطنية، أو بالأحرى للانتماء القومي العربي المتجذر في أحضان العمق الإسلامي المتحضر. البعيد هو الآخر عن النفي المطلق لمن سواه.
للطائفية وجهان أحدهما حاضري حسن، والآخر سياسي قبيح. وما نشهده اليوم منها، وينتشر كالفيروس في صفوفنا، ليس سوى ذلك الوجه القبيح الذي يبث جراثيم الطائفية البغيضة، بوعي أو دون وعي في صفوف هذه الأمة.