المؤشر صفر.. مستقبل الإرهاب في البيئة العمانية

يأتي هذا الكتابُ ليمثلَ انعطافةً أكاديميّةً، وتأصيلًا لموضوعِهِ في (مكتبةِ العلومِ السياسيّةِ العُمانيّةِ) التي ما زالتْ تؤسسُ أعْمدَتها الأولى في صرحٍ لا ينتهي بنيانُه، ويتمددُ في الاتجاهاتِ كافةً.

كما يعدُّ في موضوعِهِ (نقطةَ ارتكازٍ) تنطلقُ منها الأسئلةُ المؤسِّسةُ للبحثِ النظريّ مدعومةً بِبنْيَةٍ تحتيّةٍ فكريّةٍ ومتجذِّرةٍ في (الدراساتِ السياسيّةِ والاقتصاديّةِ)، ولمْ تكتفِ بالتنظيرِ الأكاديميّ، وإنما اتَّخَذَتْ من (الاستدلالِ العقليِّ) مَنْطِقًا، واتكأتْ على (البرهانِ الماديِّ) مَقْصِدًا، وانْبنَتْ على (المنهج العلميّ) رؤيةً، واستندَتْ إلى (الاستنباطِ العقليِّ) مَرْجِعًا لتؤسسَ في النهاية (مُسْنَدًا) أكاديميًا – نزعمُ - أنَّه الأولُ من نوعهِ في سلطنةِ عُمان ولمْ يسبِقْ صاحبَه أحدٌ - ولا نُزكي على الله أحدً – من حيثُ حداثةِ الفكرةِ، وطرافةِ الرؤيةِ، وجَرْأَةِ القضيّةِ، وجِدَّةِ الطَّرحِ.

ومن منطلق اتساع بيئة الإرهاب الدولي ومخاطره وانعكاساته على البشرية جمعاء وعلى استقرار الدول وأمن الشعوب، برز اهتمام الباحث وتركيزه الخاص على البيئة العمانية، محذرا من مدى المخاطر والمخاوف المستقبلية المحتملة التي يمكن أن تتعرض إليها جراء ذلك المد والتمدد الإرهابي العابر للحدود الوطنية، فجاءت فكرة هذا الكتاب الذي يحاول البحث في انعكاس مخاطر وامتدادات تلك القضية الدولية على الداخل الوطني العماني من مختلف الجوانب والزوايا السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والسعي لاستشراف الاحتمالات المستقبلية التي يمكن أن تتعرض لها نتيجة ذلك الاتساع في بيئة الإرهاب العابر للقارات، خصوصا أن سلطنة عمان تجاور محيطا ملتهبا سياسيا وأمنيا منذ عقود طويلة، وتقع في وسط حلقة كبيرة من الصراعات وتنازع المصالح الجيوسياسية الإقليمية والدولية.

وتستهدف هذه الدراسة الإجابة بقدر المستطاع على أسئلة طالما طُرحتْ وتمّ تداولها كثيرا من قبل العديد من الباحثين والمراقبين لقضايا الإرهاب في الساحتين الإقليمية والعالمية، ومن أهم التساؤلات على سبيل المثال لا الحصر: لماذا خلت سلطنة عمان من أي نوع من الانتماءات الإرهابية أو المتطرفة طيلة عقود زمنية طويلة؟ وكيف تمكن هذا البلد في هذه البيئة الدولية الفوضوية أو التي ينتشر فيها الإرهاب والتعصب والتطرف من كل جدب وصوب من احتواء هذه الظاهرة المقيتة؟ وما هي الأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية المستقبلية التي تمثلها سلطنة عمان بالنسبة للتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية؟ وما هي أهم وأبرز المنافذ التي يمكن أن تخترق من خلالها التنظيمات الإرهابية والإرهاب القلعة العمانية التي ظلت منيعة عليهم خلال عقود طويلة؟

وتكمن أهمية هذه الدراسة التي يقدمها محمد الفطيسي في أنها ستعين متخذ القرار والمؤسسات الأمنية والسياسية والقانونية في السلطنة على أخذ الحيطة والحذر والعمل على إيجاد وتوفير بيئة أمنية وقانونية وطنية وقائية مستقبلية قادرة على الاستمرار في المحافظة على (المؤشر صفر) في الإرهاب الدولي العابر للحدود الوطنية من جهة، وتحقيق أقصى قدر ممكن من الطمأنينة والأمن والاستقرار الداخليّ في مواجهة قوى الظلام والتطرف من جهة أخرى.

وتنتهي الدراسة بحزمة من التوصيات والمقترحات التي يرى فيها الباحث جرعة وقائية ضد آفة الإرهاب وكان من أهمها: إنشاء مركز دراسات متخصص يهتم بتقصي ودراسة المشاكل والظواهر الإقليمية والدولية، وإضافة مواد تثقيفية توعوية في المنهاج الدراسيّ بهدف غرس روح التسامح والتعاون واحترام المعتقدات الدينية والحرية الفكرية، وتوظيف وسائل الإعلام في توعية الشباب مع تبني خطاب دعوي إعلامي متوازن، وتدعيم أسباب ومفاهيم الثقة المتبادلة بين السلطة والمجتمع، ورفع مستوى الوعي الأمني مع زيادة التنسيق الأني والاستخباراتي بين دول مجلس التعاون ودول الجوار والقوى الكبرى، وضرورة التمسك بإدارة الأزمات وطنيا لتحاشي الانقياد للإملاءات الخارجية، والتشاركية في اتخاذ القرارات المصيرية وخصوصا تلك التي تلامس الحياة اليومية للشعوب، وتوفير مساحة واسعة من الحريات المسؤولة في الحياة الثقافية والسياسية، والبحث عن بدائل أخرى للثروة النفطية، وتدعيم حقوق المساواة بين جميع الأفراد والمجموعات وشرائح المجتمع باختلاف مذاهبهم وأعراقهم على قاعدة المواطنة واحترام حقوق الإنسان، وتعزيز الوحدة الوطنية واتخاذ إجراءات قانونية رادعة ضد أية محاولات داخلية أو خارجية لبث الطائفية والتحريض المذهبي، ومعالجة مشكلات الفقر والبحث عن العمل بصورة علمية.

لقد نجحَ الباحثُ محمدُ الفطيسي في استدراجِ أدواته البحثيّة إلى منطقةٍ شديدةِ الخصوصيّةِ من ميدانِ البحثِ، عبرَ نقاشاتٍ مفتوحةٍ مع الذاتٍ والآخرِ، واستنطاقِ النصوصِ، ومحاورةِ الوثائقِ، وتحليلِ الأرقامِ بروحٍ مجردةٍ رَكِبَتْ قاربَ الموضوعيةِ والحيادِ البَحْثيّ في بحرٍ متلاطمٍ الأفكارِ، ومتزاحمٍ الرؤى ليصلَ إلى شواطئِ الحقيقةِ في عالمِ تتسعُ فيه مساحةُ المعرفةِ وتتداخلُ فيه الرؤى بين عشيَّةٍ وضُحَاهَا.

كلُ هذا ناهيكَ عن لغةِ الكتابةِ البحثيةِ التي جَمَعَتْ بين الأسلوبين (العلميّ)، و(العلميّ المتأدِّبِ)؛ فضلًا عن الاعتمادِ على الجملةِ القصيرةِ والبسيطةِ ونادرًا ما نعثرُ على جملةٍ مُرَّكبةٍ أو طويلةٍ إلا إذا كانتْ حاضرةً في النصِّ عبرَ مرجعٍ أكاديميّ يستندُ إليهِ الباحثُ في دعمِ رؤيتِه والتدليلِ على فكرتِهِ.

ويبقى في النهايةِ أنْ نقولَ: إنَّ التوصيات التي أثبتَها الباحثُ في نهايةِ هذِهِ الأطروحةِ جاءتْ مُتسقةً مع نتائجِ البحثِ، ومنطقيّةً وعقلانيّةً وواقعيّةً، وقابلةً للتطبيقِ، وليستْ خارجَ حدودِ المسموحِ، والمباحِ ولا تستعصي على التنفيذِ، ومن ثَمَّ نشير هُنَا إلى ضرورةِ إمعانِ النظرِ فيما تَبْسُطُهُ من أفكارٍ، وإِعمالِ العقلِ فيما تنشرُه من أفكارٍ، وإِشغالِ الرأي بما تطرحُه من أدوارٍ.

الجدير بالذكر أن الباحث محمد الفطيسي يمثل أنموذجًا للأقلامِ العابرةِ للحدودِ الوطنيّةِ وأحدَ المتخصصين في الشؤونِ السياسية، والمنظِّرين في الفكرِ السياسيِّ العامِ، وقدْ تَخَطَّى بكتاباتهِ، وأفكارِه الرَّصينةِ حواجزَ الصحافةِ المحليّةِ، والدورياتِ الخليجيةِ، وانطلقَ بمشاركاتِه ومطارحاتِه البحثيةِ خارجَ بِساطِ البحثِ الإقليميّ،

تعليق عبر الفيس بوك