لا أريد أن أعيش في مدينة الصالحين

 

جمال النوفلي

جان نيكولاس روز Jan Niclas rose رحَّالة متجول، ألماني الجنسية، عمره 25 عاما، ترك منزله الكائن في مدينة صغيرة جدا وبعيدة جدا في غرب ألمانيا، اسمها بيلفيلد Bielefeld على الأرجح، ولا يوجد شيء يميز هذه المدينة عن باقي المدن الألمانية الأخرى. حتى إنَّ جون أخبرني أنه عادة ما يلتقِي بألمان آخرين في ترحاله وحين يسألونه عن بلدته وحين يخبرهم بأنه من هذه المدينة يجيبونه باستغراب: "وهل توجد مدينة في ألمانيا بهذا الاسم؟!".

على كلِّ، جون وصل إلى عُمان قبل ثلاثة أسابيع تقريبا، وغادرها عصر أمس، وقد تجول فيها شرقا وغربا، وزار كل الأماكن ونزل كل الأودية، وصعد كل الجبال حتى القرى الصغيرة في ساحل الباطنة التي لم تكن يومًا مزارا سياحيا، زارها ونام على شواطئها، واختلط بأهلها وأعجبته وأعجبهم، وحين سألته في إحدى المرات عن أغرب ما رآه في ترحاله حول العالم، قال لي بأن الأغرب لم يره حتى الآن؛ فالأغرب سوف يراه في إحدى المدن الصينية التي قرأ عنها في الكتب.

وما ذاك؟

قال: هي مدينة عادية يا جمال، لكنها سوف تطبق شيئا غريبا على جميع أفراد مجتمعها؛ بحيث يضمن لها الأمن والأمان، ويضمن لها أيضا أن يسعى كل أفراد المجتمع إلى أن يكون صالحا ومصلحا بشكل دائم، ولأجل تحقيق هذه الغاية ابتكرت أنظمة رقابية ذكية أشبه بكاميرات الرادار ستنشرها في جميع شوارع المدينة وأزقتها، وحتى داخل الاماكن العامة وميادين العمل، ودور هذه الكاميرات هو مراقبة تصرفات الأفراد وتسجيلها ووضعها في نقاط؛ فإذا تصرف الفرد تصرُّفا خيرا كأن يساعد مسنا في الطريق أو يتبرع بشيء لفقير أو لمؤسسة خيرية، أو يسقي حيوانا، أو يميط أذى عن الطريق، أو يقرأ كتابا، فإنها تحتسب له عددا من النقاط الخضراء، وأما إن رصدته وهو يتصرف تصرفات سيئة كأن يتأخر عن العمل أو يتسيب منه أو يهمل واجباته نحو الآخرين، أو يتشاجر، أو يقود سيارته بشكل أرعن، أو يلقي قمامة في غير موضعها، فإنها تحتسب عليه، فيُخصم من نقاطه الخضراء، فإن لم يكن لديه أي نقاط خضراء تقيد عليه نقاطا حمراء، طبعًا حتى الآن الأمور ليست مدهشة كثيرا؛ فالمدهش فيها هو أن كل فرد في المدينة بإمكانه الدخول في النظام بكل سهولة عن طريق هاتفه المحمول، والتعرف على نقاط أي شخص يريد، فيعرف إن كان هذا الإنسان خيِّرا أو شريرا؛ فمثلا يمكن لصاحب العمل أن يعرف المتقدم لشغل وظيفة إن كان ممن يلتزم بالعمل ويثق به أم لا، ويمكن أيضا لفتًى أن يعرف حقيقة الفتاة التي أعجب بها إن كانت صالحة أو لا، وغير ذلك من الأمثلة التي يهمنا فيها أن نعرف الآخر قبل التعامل معه.

في الحقيقة أنا مثلكم أيضا لا أعرف إن كان ما يتخيله جون عن هذه المدينة الصينية هو حقيقة أم خيال، ولكني أخذت أتأمل في الموضوع وأنا أبتسم.

ماذا لو كان هذا النظام حقيقيا؟ وماذا لو تمَّ تطبيقه في بلداننا العربية؟ كيف ستكون صفحاتنا؟! ونحن نمارس هذا الكم الهائل من المخالفات التي نبدأها مُنذ إهمالنا لترتيب فراشنا في الصباح وحتى ذهابنا إلى النوم في وقت متأخر من الليل.

يُمكنكم أيضا أن تتأملوا كيف ستكون صفحتكم، وكيف ستكون صفحة مدرائكم وزملائكم في العمل ويمكنكم أن تبتسموا مثلي؛ لأننا فعلا لا نريد أن نكون في مدينة الصالحين، ولأننا في نعمة من الشرور لا نُحسد عليها، والشهر الفضيل يطرق الأبواب وكل عام وأنتم بخير.