المرأة والسلطة لـ"ماري بيرد"


فينان نبيل - كاتبة وباحثة مصرية

الميسوجينية "Misogyny" مصطلح يدل على كراهية النساء أو "معاداة النساء"، أو احتقارهن، وهو ما اعتبره الخطيب الروماني"شيشرون" ناجما عن الخوف من النساء أو ما يعرف باللاتينية (gynophobia)، وتتجلى الميسوجينية أو كراهية النساء في نظر مناصري حقوق المرأة في عدة صور منها: التمييز الجنسي، احتقار النساء، والعنف ضدهن، واعتبار المرأة أداة جنسية، طالما ظهرت كراهية النساء كسمة بارزة في الأساطير القديمة في مُختلف الحضارات، وتم وصف العديد من الفلاسفة الغربيين المؤثرين بكارهي النساء.
عرف الاجتماعي "آلان جونسون" كراهية النساء بأنّه "كره الإناث بسبب كونهن إناثا"، أما ميشيل فلود يرى أنها بمثابة نظام فكري وأيديولوجي يُلازم المجتمعات الأبوية أو الذكورية منذ آلاف السنين، ومازالت المرأة توضع في مناصب ثانوية تحد من فرص حصولها على السلطة وصناعة القرار.
حرصت"ماري بيرد" على تأصيل السلوكيات والمواقف السلبية المناهضة للمرأة، وتقصي جذورها التي ترجع في النسق المعاصر إلى أصول في التاريخ والتراث الأغريقي (اليوناني) والتراث اللاتيني (الروماني) باعتبارها الخلفية التي شكلت ومازالت تشكل أسس الفكر والسلوك والمواقف التي تتبناها المجتمعات المعاصرة في الغرب، ومنها انتقل بحكم المحاكاة والاتباع إلى مجتمعات معاصرة بدورها في قارات وأقطار وثقافات تتجاوز أمريكا وأوروبا.
تُعد كراهية النساء تقليدية في الأدب اليوناني فقد كان أرسطو يرى أن النساء أدنى منزلة من الرجال، واعتبر النساء تشوهاتٍ طبيعية أو رجالاً ناقصين، ومنذ ذلك الوقت كانت المرأة هي كبش الفداء في مجتمعها، مؤكدا أن شجاعة الرجل تكمن في إعطاء الأوامر، بينما تكمن شجاعة المرأة في الطاعة والاستجابة، وأن شخصية المرأة إذا ظهرت بصورة شجاعة أو قوية في التراجيديا لن يكون ذلك أمرا مقبولا. أرسطو كان يرى أن صوت المرأة الخافت دليل على خبثها ويعد خطراً في الأزمنة الغابرة، بل كان يُعتقد أن صوتها نفسه يمكن أن يغرق دولة، في حين أن الفضيلة تعبر عن نفسها بصوت عميق وهادر كزئير الأسد، وبالطبع صوت الرجل. وتنتشر في جمهورية أفلاطون الكثير من العبارات التي تدل على احتقار النساء منها "أن الانحطاط الأخلاقي للديموقراطية هو أنها تسعى إلى تحقيق المساواة بين الجنسين".
تؤكد الكاتبة على أن هناك إقصاء وتهميشا متعمدا للمرأة خلدته أهم الأدبيات اليونانية "الأوديسة" التي تعتبرها أبعد من كونها مجرد أسطورة تروي الصعوبات التي واجهت "أوديسيوس" في العودة للوطن بعد حرب طروادة، وانتظار زوجته "بينلوبي" له طيلة عشرة أعوام ورفضها كل النبلاء الذين تقدموا لها، فقد قدمت صورة "لبينلوبي" وهي تتلقى أمرا من ولدها لتلتزم منزلها ولا تتكلم قائلا "أمي اذهبى إلى مكانك، والتزمي بعملك المنزلي، فالكلام مهنة الرجال، الرجال فقط، إن قوة المرأة هي التمسك بواجباتها" وتؤكد أنها التزمت بأوامره وعادت أدراجها، ترى بيرد أنها ليست مجرد أسطورة، إـنها تجسد وضع المرأة الحقيقي في الغرب منذ القدم. إن ما يهم الكاتبة هو الرابط الحضاري بين"الأوديسة" وإجبار المرأة على الصمت وإقصائها من الفضاء العام في الغرب حتى في عالمنا المعاصر، على كل المستويات سواءً في المقاعد الأمامية في الحياة السياسية أو في أدنى المستويات.
في العالم القديم كان الخطاب صفة من الصفات المحددة للذكورة، وكانت المرأة التي تتكلم في العلن في أغلب الأحوال لا تعتبر امرأة. تذهب بيرد إلى أنه ليس هناك تغيرا في هذا الموقف، فقد لجأت مارجريت تاتشر لتلقي دروسًا في الخطابة لتعمق صوتها، وأن المرأة التي تتقلد مناصب سياسية تفضل ارتداء السروال لتكون بمستوى الرجل، مما يدلل على أنها -على حد تعبير الكاتبة- تعد دخيلة على الحياة العامة.
تهدف الكاتبة إلى إلقاء نظرة طويلة متفحصة حول العلاقة بين صوت المرأة متمثلا في تعبيرها عن نفسها وعن آرائها، وبين المناخ العام سواء في صناعة الخطاب السياسي أو المنافسة على المناصب العامة، أو التعليق على الأحداث السياسية، محاولة من خلال تلك النظرة أن تجد تشخيصا لمحاولة تكميم صوت المرأة وتصف ما يحدث من ممارسات ضدها، وهو ما أطلقت عليه "كراهية النساء". وتتحدث عن تأثير الإعلام في القرن الواحد والعشرين في تشييء المرأة الذي عزز بدوره نشأة ثقافة كراهية المرأة لذاتها والتركيز على الاهتمام بالشكل، والتجميل وإنقاص الوزن أو زيادته.
ترى الكاتبة أن "كراهية النساء" هي أحد المظاهر السافرة لتيار"الشعبوية" الكاسح، الذي يتجلى في الإساءة للمرأة والحط من شأنها وهو ما تعاني منه الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الراهن، وهو ما تعكسه وسائل الإعلام وساحات السياسة، فقد حفل النصف الأخير من عام 2017 بشكاوى واعترافات ومجابهات تتعلق بحالات"التحرش" بالمرأة الأمريكية بكل أنماطه وسلوكياته وتسجيل حالات عديدة لجرائم استغلال الرجال لنفوذهم في استغلال وقهر من يعمل تحت رئاستهم من النساء، في مختلف المواقع وعلى مختلف المستويات الثقافية والمهنية والطبقية. جدير بالذكر أنَّ الشعبوية تيار كاسح يزيد يوما بعد يوم، ويجتاح كل أصقاع العالم حتى تلك الدول التي تدعي تبنيها لحقوق الإنسان، وهو تيار شديد السلبية، يحمل بين طياته ظلال التمييز العنصري واللوني والطبقي، وامتدت لتغطي بظلالها الكثيفة على ساحات الغرب الذي يفترض أنه يقود خطى التقدم والمساواة والتنوير في عالمنا.
أدت تلك الممارسات لظهور تيارات على شكل حركة ديناميكية اجتاحت الشوارع الأمريكية منذ خريف 2017 تكرسا للحفاظ على كرامة المرأة وحملت إحدى هذه التيارات اسما أصبح شهيرا وذائع الصيت هو"وأنا أيضا" أو"Me too" في إطار هذه الحركة أصدرت "ماري بيرد هذا الكتاب " المرأة والسلطة،وأضافت له كلمة "مانيفيستو"وهي تعني في اللغة "البيان" وهي تثير لدى المثقف المعاصر تحريك الثوابت ورفضها، والتطلع إلى وضع أفكار جديدة وغير مسبوقة.
مؤلفة الكتاب أستاذة الدراسات الكلاسيكية في الأدب والتاريخ اليوناني والروماني في جامعة كامبردج، استندت مقولات كتابها على محاضرات علمية سابقة لها، وأحاديث متلفزة حول موضوع مكانة المرأة في المجتمع الذي تعيش فيه وأضافت فصلين الأول "صوت المرأة في المحيط العام "والآخر عن "المرأة في مضمار السلطة والقوة والنفوذ". الكتاب يعتبر من الكلاسكيات النسوية الحديثة.وفيما يخص "صوت المرأة في المحيط العام" ترى أن النساء تٌجبر على الصمت حتى وإن تعرضت للإيذاء الجسدي أو الاغتصاب،وأولئك القلائل من النساء اللائي لا يقبلن الصمت، يدفعن ثمنا باهظا من الهجوم والتعنيف عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وتسرد مجموعة من قصصهن.
ترى أن هناك سلوكيات تحول دون خروج المرأة من الإطار الذي وضعه لها المجتمع في ساحات العمل العام التي تؤكد الكاتبة أنها تقتصر على الرجال مهما كانت مواهبها وتجليات نبوغها، منذ منعها من الخطابة أو الإبداع الفكري في عهد(شيشرون، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو) وصولا إلى رفض الناخب الأمريكي إيصال السيدة "هيلاري كلينتون" إلى مقعد السلطة للمرة الأولى في الولايات المتحدة. ماري بيرد ناشطة نسوية الأكثر شهرة في بريطانيا،تعيد النظر بذكاء في أجندة النوع الاجتماعي وتظهر كيف تعامل التاريخ مع النساء القويات، وتطرح أمثلة عدة من ميدوسا وأثينا وتيريزا، وهيلاري كلينتون.
تتبعت "بيرد" في كتابها الأصول التاريخية للإساءة للمرأة ومهاجمتها في كل أنحاء العالم بلا رحمة، لا سيما المرأة القوية منذ أمد بعيد، وكيف كانت تُمنع من الأدوار القيادية، وتقديم النساء القويات الناجحات في قالب ذكوري،متسائلة عن الوقت الذي سوف يتم فيه اعتبار النساء ضمن بنية السلطة بشكل حقيقي باعتبارها إنسانا ومواطنا وشريكا في المصير والحياة.
يهدف هذا الكتاب الموجز إلى طرح ما قد نصفه بأنه «خطاب تنبيه» أو تحذير إزاء التهوين من شأن المرأة. وهي أقرب إلى دعوة أكاديمية إلى تجاوز قصائد الغزل التي حفلت بها الثقافات مديحا للمرأة أو طلبا لرضاها، حيث أثبتت مؤلفة الكتاب سلبية التعامل مع المرأة في سياسات مختلفة سبقت في التاريخ الإنساني، ابتداء من التعامل مع المرأة وكأنها دمية كما تصورتها ملحمة الإلياذة على نحو ماحدث "لهيلين" أو ترسمها في صورة الخاضع للأوامر وكما حدث بالنسبة للأميرة "بنيلوبي" بطلة ملحمة الأوديسة التي أبدعها "هوميروس شاعر الإغريق الأشهر.
افتتحت الكتاب باعترافها أن هناك تقدما هائلا للنساء في الغرب على مدة المائة عام الماضية، لقد ولدت والدتها قبل أن يكون هناك حق تصويت للنساء، وعاشت حتى رأت السيدة "مارجريت تاتشر" تتقلد منصب رئيس وزراء بريطانبا، وسعدت المرأة بما حصلت عليه لنفسها من قدر من التغيرات الثورية في القرن العشرين والتي كانت مستحيلة من قبل، فقبل ذلك وظيفتها الزواج والإنجاب، ولكن لم تمنع هذه التغيرات من استمرار العنف ضد المرأة وإجبارها على الصمت إزاء العنف الجسدي أو التحرش الذي يمارس ضدها، والذي يصل أحياناً إلى حد القتل للنساء الناشطات في الحياة العامة.
تطرح عددا من الأفكار حول إعادة تشكيل قوة المرأة وتربطها بالقيادة التي هي أساس نجاح جميع المؤسسات المدرسة، الجامعة، والحكومات - التي تقتصر على الذكور غالبا-،تقول بيرد :"إنه من الضروري مراجعة مفاهيمنا عن القوة والنظر في أسباب استبعاد المرأة عن مراكز القوة ومواقع السلطة. يجب أن نرى كيف تتأثر تصوراتنا عن السلطة والتسيد، وحتى المعرفة بالتمييز بين الجنسين. وتؤكد في كتابها أنه ليس من السهل إيجاد موقع للمرأة "في بنية مشفَّرة أصلًا على أنها للرجل، ولذلك يتعيّن تغيير تلك البنية".وتضيف بيرد قائلة": "إذا لم تعتبر المرأة منخرطة بالكامل في مراكز القوة ومؤسسات السلطة، فالمؤكد أننا بحاجة إلى إعادة تعريف القوة والسلطة، لا إعادة تعريف المرأة.
من دواعي الأمل والتفاؤل بقضية المساواة أن نجد كتابًا لا يصف حجم المشكلة فحسب، بل يقترح حلولًا مثيرة لها. أحد هذه الحلول هو الثبات على الموقف المدافع عن المساواة. وهذا ما تمارسه بيرد فعليا، فهي ناشطة على "تويتر"، تخوض معارك شرسة ضد جيش من المتصيدين والاستفزازيين والمتحرشين والمعادين، الذين يستهدفون عملها وعمرها وحتى مظهرها. استكشفت بيرد الأسس الثقافية لكراهية النساء، وافتراضاتنا الثقافية حول علاقة المرأة بالسلطة، ومد مقاومة النساء لوضعهن في قالب ذكوري، مع انعكاسات لتجاربها الشخصية مع التمييز على أساس الجنس الذي عانت منه. رسمت الكاتبة خطوطا مستقيمة من مواقف العالم القديم والتي ألقت بظلالها على العالم المعاصر في مظاهر عدة تصل إلى حد قهرها، واستغلالها، وتعريضها لأنماط سلوكية تمس كرامتها وتنال من إنسانيتها باعتبارها إنسانا ومواطنا وشريكا في المصير والحياة. تؤكد أن الاتجاه العام في أوروبا هو إسكات المرأة وتجاهل رأيها أو رفضه،وعدم أخذ كلامها على محمل الجد.وسردت في كتابها الكثير من الحالات التي تُمنع فيها المرأة من الشهادة على العنف الذي يُمارس ضدها.
يتزامن صدور كتاب بيرد "المرأة والسلطة" مع ازدياد الوعي بتكميم المرأة الذي تتحدث عنه، وبيرد ترفض التوقف عن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في الدفاع عن آرائها، على الرغم مما تتعرض له إلى حد تلقيها تهديدات بالقتل. ترد بيرد بشدة أحيانًا وبلطف أحيانًا أخرى تكتب بيرد: "حين يتعلق الأمر بإسكات المرأة، فإن للثقافة الغربية آلاف السنين من الممارسة العملية" في هذا المجال، وترى أن الإحباطات التي تتعرض لها الكاتبة قد تكون ملهمة لنساء أخريات يكملن المسيرة.

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك