عبد الله العليان
في خضم التدافع الفكري والسياسي في عالم اليوم، وصراع الكلمة واختراقها، في ظل الثورة المعلوماتية، أصبح التفكير الموضوعي من أهم حاجات التعاطي مع هذه التطورات الهامة والسريعة، ولذلك لا بد من تحديد الأفكار الملائمة والموضوعية، في كل ممارساتنا الفكرية ليكون التعاطي موضوعياً يعكس الرؤية الواقعية والعقلانية،و في هذا العصر لا تستطيع أن تعزل نفسك عن العوالم الأخرى، فهناك تنازع لمن هو أقدر على الاحتواء والسيطرة والإقصاء، وهو ما أطلقه الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن (إما معنا أو ضدنا)، لكننا كمسلمين، لنا نظرة أخرى تنطلق من القرآن الكريم (سنن التدافع)، لكن يظل التفكير الموضوعي مسلكاً مهماً، لإرساء أرضية فكرية موضوعية متوازنة، حتى تتحقق النجاحات المقبولة في كل سياساتنا وتخطيطنا لمستقبلنا، ويرى د/ عبد الكريم بكار في كتابه (فصول في التفكير الموضوعي) أنّ الابتلاءات تحيط بالحياة الإنسانية، وأنّ تكون هناك قابلية لتحويل ما هو سلبي إلى ما هو إيجابي، من حيث طرح الأفكار الإيجابية والموضوعية، لتفادي مخاطر التداعيات والمنغصات، وهذه سنن الحياة وأنماطها المتحركة في أي اتجاه قد يكون، ولذلك "فإنّ الثروة الحقيقية لأمّة من الأمم لا تكمن في الأرض أو المال أو الأشياء التي تمتلكها، وإنّما تكمن في كمية الأفكار البناءة التي تخلصها من قيود الضرورات على الوجه الأكمل، وتعلمها حل المشكلات وإبصار دروب الفعل التي تسلكها، فالكتاب العزيز جاء حافلاً بالآيات التي تحث المسلمين على تقليب النظر في ملكوت السموات والأرض، ليستدلوا بذلك على وجود الخالق المبدع، كما حثهم على النظر في أحوال البشر وبدايات خلق الأشياء، وتحريك عقولهم بقياس أحوال من سبقهم من الأمم حتى لا يعرضوا أنفسهم لمثل ما تعرضوا له من عقاب وتدمير".
ولا شك أنّ الحاجة إلى إرساء نظرة موضوعية للتفكير، وهذا يتطلب النظرة الواعية لما يستجد في حياة الأمم في تحولاتها المختلفة، ويرى د. عبد الكريم بكار، أنّ بناء الأفكار الموضوعية من المطالب المهمة، وفق تقديرات يتم طرحها للتفكير دون إقصاء، وهذا "يستدعي بناء فضاء نظري واسع المدى يسمح للمرونة الإنسانية واختلاف ظروف البشر أن تأخذ كل أبعادها؛ لكنها في النهاية تقف عند حدود واضحة المعالم، تفصل بين القيم وأضدادها، وتوقف الإنسان على مراشد الحق التي ليس بعدها إلا الضلال.
وبما أنّ كثيرًا من الأشياء لا يتضح إلا بمعرفة أضداده، فإنّ لنا أن نتصور ماذا تكون الحال لو أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سمح للناس ببناء الأحكام على الظنون، وإجراء العقوبات على الشبه، وماذا يحدث لو أنّ التفاضل بين الناس في الإسلام كان لا يقوم على التقوى". وعن تجليات الموضوعية عند علماء المسلمين يطرح د. بكار، ضرورة وضع الموضوعية موضع المنهج الرزين للتقييم، وقد اتبع العديد من علماء المسلمين الأوائل هذه المسارات الموضوعية في أبحاثهم، ومناهجهم، فإنّ "التصور الكوني لدى كل أمّة من الأمم يحدد أشياء في حياتها، ومن جملة ذلك مناهج البحث عن المعرفة، ومقاييس الاستزادة منها، وقد أدرك المسلمون أنّ وظيفة المسلم في الحياة هي القيام بوظيفة الاستخلاف في الأرض الذي يتضمن إلى جانب العبودية لله إعمار الأرض، وذلك بالكشف عن السنن التي تحكم وجود الأشياء والعلاقات التي تتبادلها فيما بينها". ويرى د. بكار أنّ بعض الغربيين حاول أن يطمس هذه الجهود المنهجية والبحثية للعلماء المسلمين، وأن يقلل من مناهجهم، لكن بعض المنصفين ردوا هذه الآراء وأشادوا بجهود هؤلاء العلماء ودراساتهم الفكرية والفلسفية والعلمية، ومن هؤلاء المنصفين (برانتل) حين قال: "إنّ روجيه بيكون أخذ كل النتائج المنسوبة إليه في العلوم الطبيعية عن العرب". وكما فعل بعض المختصين من أمثال (فيديمان) و (شرام) حين استطاعا توضيح مكانة العلماء المسلمين في تأسيس قانون التجربة والنظرية، وأثرهم الواضح في (روجيه بيكون) و (ليونارد دافينشي)".
ولا شك أن النقد الداخلي لبعض الأخبار والمعلومات المتناقلة، التي تنطلق من التعصب فقط، لاقت نقداً مهماً، بما يؤدي إلى التصحيح والفحص والتقييم "ويرى ـ العلامةـ ابن خلدون أنّ التشيع للآراء والمذاهب قد أعمى بصائر المتعصبين عن نقد الأخبار التي يروونها. "فإنّ النفس إذا كانت على حالٍ من الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر، حتى يتبين صدقه من كذبه. وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة. ومن الأسباب التي تدعو إلى انطماس الحقائق وذيوع الأكاذيب أنّ الناس يتقربون لأصحاب السلطان والمراتب بالثناء والمدح، فتستفيض الأخبار بثنائهم ومدائحهم، وهي بعيدة عن الحقيقة، ثم يأتي الرواة، فيتلقفون ذلك، ويذيعونه من غير بصيرة، ولا بحث، ويأتي مَن بعدهم ليأخذوا صورة عن أوضاع أصحاب النفوذ والسلطان من خلال ما تناقله المؤرخون الذين يحبطون كل ما يجدونه!". وعن الصور والمواقف التي تنافي الموضوعية يشير د/ عبد الكريم بكار إلى أنّ التعامل بالموضوعية ونبذ طمس الحقائق لأغراض ذاتية، والتحيز... إلخ: فإن "حصر الحق في شخص أو مذهب لا بد أن يؤدي في النهاية إلى نوع من التشنيع على من خالف من حُصر الحق فيه، شئنا أم أبينا؛ فمنطلق الخطأ يكمن في جعل الظني كالقطعي، والمختلف فيه كالمجمع عليه؛ وهذا ما صار إليه بعض أتباع الأئمة الفقهاء على نحو ما أوردنا غيضًا منه. وبما أن الأشياء تتميز بأضدادها، وبما أنّ "للشوهاء فضلاً على الحسناء" لأنها تبرز محاسنها – انطلقت ألسنة المتعصبين فيمن خالفهم حتى تكتمل محاسن من أحبوهم، وتعصبوا لهم من أئمتهم. وجَرْح العلماء حين يجد له مساغًا يكون في غاية القسوة؛ لأنّهم أعرف بالمقاتل، وأقدر على تسديد السهام، وأدرى بمخاتل الخصوم!". وعن كيف نبني الموضوعية، يطرح د/ بكار نظرة واعية لما ينبغي أن نؤسس عقلية تضع الحقائق على بساط النقاش والمحاورة ذلك "أنّ الموضوعية إرادة وقدرة، وعلم وعمل، فالإرادة تساعدنا في مقاومة الأهواء والشهوات التي يكون الانقياد لها - في أكثر الأمر– مضادًا للموضوعية. وأن القدرة تعني أشياء كثيرة، فهي تنم عن أننا ندرك حدود وجودنا المعنوي بشكل جيد، كما أنّها تعني إدراكنا لما ينبغي أن يثبت في هذا الوجود، فلا يتحول أبدًا، وإدراكنا لما ينبغي أن يتغير فلا يثبت أبدًا، وليس هذا من الأمور اليسيرة كما قد يتوهم! وهي تعني بالإضافة إلى ذلك اعتقادنا بأنّ تفاعل الوجود المعنوي والمادي يسفر باستمرار عن حقائق جديدة، واستيعابنا لهذه الحقائق متفاوت، وهذا يعني أنّ قبضتنا على كثير من الحقائق متجددة، وأنّ القبض على الحقيقة النهائية – في أشياء كثيرة – لم يتهيأ لنا، ولا لغيرنا، وربما تنقضي هذه الحياة، وتظل حقائق كثيرة خارج إدراكنا، بل إحساسنا!" من هذه المنطلقات على الأمة أن تضع المفاهيم العقلية في إطار من الموضوعية التي تضع الأمور في نصابها الحقيقي، دون تزييف أو تحريف وهذا الذي يجعل واقعنا أكثر حيوية إلى مسار التقدم.