ومنا من....

 

عائشة بنت أحمد البلوشية

 

(لا خير في بيت الكبير بلا ذرا، ولا خير في نفس جزاها هبابها)، ولأنّها كانت معين تربيتي، فإن بيت الشعر هذا يتردد في ذاكرتي منذ أن قالته لي جدتي الغالية -اطال الله في عمرها- لأول مرة في طفولتي وحتى قبل أيام عديدة، بدأت تلقي القصيدة على مسامعي ونحن نتسامر قبل نومها ليلا، حتى وصلت إلى البيت الأخير فأكملته نيابة عنها، ولمن لا يلم باللهجة العمانية الدارجة في محافظة الظاهرة، فإن البيت يعني أن القصر الفخم لا قيمة له إذا لم يكن له سقف يحمي أهله من الحر والقر، والريح والمطر، وما تحت الشمس والقمر، كما أنّ الخير بعيد عن تلك النفس الأنانية الطماعة التي لا تهتم إلا بنفسها وحسب.

وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليْه وآله وسلم فِي حجة الْوداع: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِن؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ: مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ: مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهَاجِرُ: مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ" رواه أحمد، فالحديث هنا لا يتحدث عن صفات من جاء ذكرهم التي نعرفها لغة واصطلاحا، بل جاء لنا رسولنا -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى، بصفاتهم التي تكسوهم حلل شرف الإنسانية، وكساء مكارم الأخلاق، فبدأ بصفات المؤمن هو ذلك الذي يؤثر الأمانة التي وضعها الناس في عنقه على نفسه، وفي هذه الأسطر الرائعة لسيد الخلق -صلوات ربي وسلامه عليه وآله- نجد أنّ الرابط بين الصفات هي النزاهة، والمعنى هنا أن يتجرد الإنسان من الأنا، وأن ينزه نفسه وقلبه عن الدنايا ويترفع عنها، لا يستغل ما وضع تحت يديه من صلاحيات ليرتدي جلدا أملسا، ولسانا معسولا، يجعل من يجلس إليه يثق به، ويسلمه زمام أمور المال والنفس، بل هو ذلك الشخص الراقي نفسا وعملا، يعطي ما أمده الله من طاقة ليحافظ على الأمانات التي وضعها الناس أو ولي الأمر تحت يديه، ولو تكن الأمانة عظيمة لما كانت صفة من صفات الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولم تكن لترفض حملها السماوات والأرض، وقد وصف الله جل في علاه المؤمنين الذين يؤدون الأمانات حق أدائها فقال: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) المؤمنون: ٨. أما المسلم فقد حدده الحديث الشريف في صفتين، لذا استخلصها في تعريف شخصي هو ذلك الشخص الذي يقصي أناه عند التعامل مع البشر قولا وفعلا، فيسلم الناس من لسان قد يودي به إلى السيء أو الفاحش من القول، أو يد قد تقوده لهلاك غيره ونفسه وربما وطنه.

بعد ذلك وردت صفة المجاهد الذي يجاهد نفسه الأمارة، وبالطبع ستكون هي تلك النفس الأمارة بالسوء، والتي يظل الإنسان يغالبها فإما يغلبها فيفوز وينال شرف الجهاد، أو تغلبه فيرتدي حلة الذلة والمهانة، وكذلك المهاجر، هو من يهجر الذنوب الخطايا، ويبتعد عنها مهاجرا إلى معارج البياض والنقاء.

ومن منّا لم يشته حاجة ليست لديه، لعدم مقدرته على اقتنائها لأسباب مادية أو معنوية أو جسدية، وهذا ينطبق على الجميع ابتداء بالفقير الذي لا يجد قوت يومه، وانتهاء بالثري الذي يملك الأموال الضخمة بجميع أنواعها، لكن كما جاء في المثل العماني عندما أراد أن ينصحنا: (هينها لا تهينك)، أي قو قناعاتك حتى لا يسهل هوانك، كن طودا صامدا أمام نفسك الأمارة، وإلا فإن غير مذلتك وانكسارك في الدنيا بسبب ظلمك لنفسك ولغيرك، لك وعيد في الآخرة كما جاء في قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) الشعراء:٢٢٧.

 

--------------------------------

 

توقيع:

قال حكيم: "خير الناس من كفّ فكّه وفكّ كفّه، وشرّ النّاس من فكّ فكّه وكفّ كفّه، فكم من فكَةِ كفٍّ كَفَتْ فُكُوكَهُم، وكم من كَفَةِ فكٍّ فَكَتْ كُفُوفَهُم".