الطريق إلى الاقتصاد الأخضر

◄ السلطنة مؤهلة لتبني تطبيق نموذج اقتصادي أخضر يدعم التنمية المستدامة ويعزز من النمو الاقتصادي

 

◄ "منتدى عمان البيئي" حقق سمعة دولية مرموقة بفضل الشراكة مع الأمم المتحدة

 

◄ التحول نحو الاقتصاد الأخضر يتطلب تحركا جديا وسريعا من مؤسسات الدولة المعنية

 

خلال أعمال منتدى عمان البيئي في دورته الثالثة، ناقش الخبراء والمتخصصون المفهوم والآليات والسبل التي تضمن لنا في السلطنة التحول نحو الاقتصاد الأخضر، دون إغفال مسألة التحديات التي قد تواجهنا في هذا المسار.

ورغم أنّ أوراق العمل والنقاشات غاصت في تفاصيل هذا التحول، تارة بين فريق يرى قدرتنا على التحول السريع نحو الاقتصاد الأخضر، وتارة أخرى مع فريق يعتقد بوجود تحديات ربما علينا تجاوزها أولا ومن ثم التفكير في التحول نحو هذا الاقتصاد؛ لكنني وعلى المستوى الشخصي أجد أنّ السلطنة ربما تكون من الدول القلائل التي تملك جميع المقومات التي تؤهلها لتبني تطبيقات الاقتصاد الأخضر، لعدة عوامل؛ في مقدمتها الالتزام الذاتي لدى أفراد شبعنا بحماية البيئة، إيمانا منه بضرورة الحفاظ عليها وعدم تلويثها، ولا شك أنّ هذا الالتزام هو حصيلة الجهود الحثيثة التي قادتها مؤسسات التربية والتعليم والتوعية في بلادنا منذ فجر النهضة المباركة، ما يعني أنّ أي نموذج للاقتصاد الاخضر سيجد طريقه للتطبيق دون تحديات كبيرة تذكر من جانب الأفراد. السلطنة مؤهلة أيضا لتبني تطبيق نموذج اقتصادي أخضر يدعم التنمية المستدامة ويعزز من النمو الاقتصادي، ودليل ذلك أنّ مشروعات واعدة نفذتها شركات عاملة في قطاعات توصف بأنّها "ملوثة للبيئة" لكنها نجحت في تنفيذ مشروعات موازية تدعم الاستدامة البيئية، وفق أعلى المعايير الدولية المتبعة. كما أننا في عمان قادرون على إنتاج طاقات متجددة بديلة للوقود الأحفوري، مثل توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية، وهناك بالفعل تجارب رائدة بدأت تشق طريقها نحو زيادة الإنتاج وتحويله إلى تجاري، وأيضا طاقة الرياح، خاصة وأن هناك مشروعا واعدا لإنتاج الكهرباء من طاقة الرياح في محافظة ظفار، والجميع يعول عليه كثيرا لإحداث نقلة نوعية في عمليات توليد الطاقة من المصادر المتجددة والصديقة للبيئة.

ومع اختتام أعمال الدورة الثالثة من المنتدى، أود أن أسلّط الضوء على ما نجح المنتدى في تحقيقه خلال 3 دورات متتالية؛ في البداية استطاع المنتدى أن يؤسس لشراكة استراتيجية مع المؤسسات المعنية بقطاع البيئة، في إطار حرصنا في نهج "إعلام المبادرات" على تعظيم قيم الشراكة وتبنيها في كل ما نطرحه من مبادرات وطنية تستهدف خدمة الوطن والصالح العام، وهذه الشراكة تنطلق من قناعاتنا المتجذرة بأنّه لا سبيل نحو أي إنجاز دون فكر "الفريق الواحد" والشراكة والتكامل بين مختلف القطاعات، وعلى رأسها القطاعين العام والخاص. كما إنّ المنتدى حقق سمعة دولية مرموقة في ظل الشراكة التي عقدها منذ الدورة الثانية مع منظمة الأمم المتحدة، ممثلة في برنامج الأمم المتحدة للبيئة لمنطقة غرب آسيا، علاوة على الحضور المميز في الدورة الثالثة لرئيس المجلس العالمي للاقتصاد الأخضر وكبير مستشاري الصندوق العالمي للتنمية والتخطيط بالأمم المتحدة، ما يعكس الثقة الكبيرة التي تتحلى بها المنظمات الدولية تجاه السلطنة والمؤسسات العاملة فيها، وما يتم تنظيمه فيها من منتديات ومؤتمرات معنية بقطاع البيئة.

منتدى عمان البيئي نجح أيضًا في البروز كمنصة بحثية وإعلامية تسلط الضوء على مختلف القضايا البيئية، فأوراق العمل المشاركة في المنتدى تكشف أرقاما وإحصائيات يُعلن عنها لأول مرة، كما أنّها تقترح توصيات وآراء جديرة بالتطبيق والتنفيذ لتحقيق التنمية البيئية المستدامة. ولقد أبدى المتخصصون والخبراء مقدمو أوراق العمل حرصا شديدا على تقديم معلومات ورؤى تخدم المسار التنموي بحق، وليس فقط تقديم أوراق عمل من أجل المشاركة العابرة في المنتدى، وشاهدتُ - مع الحضور الواسع سواء عبر المشاركة داخل قاعة المنتدى أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي- حجم التفاعل الواضح بين مقدمي أوراق العمل والحضور، وخاصة في الجلسات النقاشيّة التي لم تعد مجرد حلقات للنقاش، بل صارت جلسات للعصف الذهني التي تتمخض عن أفكار ورؤى طموحة.

نجاح آخر حققه المنتدى تمثل في رؤية أعداد كبيرة من أبنائنا الطلبة والطالبات من دارسي التخصصات المرتبطة بالبيئة والاقتصاد، يشاركون برغبة أكيدة في زيادة التحصيل العلمي لديهم، وكم كنتُ سعيدًا أن أرى البعض منهم يدوّن على هاتفه النقال أو على أوراق ما يستمع إليه من معلومات وتفاصيل كانت محل اهتمام لهم.

هذه النجاحات السابق ذكرها لم تكن لتتحقق دون تكاتف الجهود، والسعي وراء هدف واحد هو الخروج برؤى وتوصيات تنير لنا الطريق وتشير إلى أنجع الوسائل التي يمكن توظيفها من أجل دعم وتسريع وتيرة التحول نحو الاقتصاد الأخضر. ولذلك جاءت وثيقة البنود الاسترشادية وتوصيات منتدى عمان البيئي في دورته الثالثة، معبرة عن هذه الطموحات، فقد دعت الوثيقة إلى ضرورة تبني السلطنة لنموذج اقتصادي أخضر لتحقيق الاستدامة والنمو، وهذا النموذج سيكون إحدى قاطرات النمو في البلاد؛ من خلال ما سيوفره الاقتصاد الأخضر من فرص عمل ووظائف للشباب، وفرص النمو والتوسع للشركات، خاصة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ورواد الأعمال، عبر إقامة مشاريع الاقتصاد الأخضر، ومنها مشاريع إعادة التدوير، والتي كشف الخبراء في المنتدى أنّ هذه المشاريع العاملة في مجال إعادة تدوير المخلفات ستصل قيمتها السوقية خلال السنوات الخمسة المقبلة إلى نحو 500 مليار دولار أي نصف تريليون دولار، وهو رقم كبير بالفعل، ولنا أن نتخيّل لو أنّ السلطنة توسعت في هذه المشروعات، كم ستكون حصّتها من هذه المليارات؟! وهنا أشير إلى أنّ دولة ألمانيا على سبيل المثال تستورد مخلفات كي تقوم بإعادة تدويرها، في ظل التوسّع الهائل لهذا القطاع هناك. فما الذي يمنع عمان من أن تكون مصنعًا ضخما ومحطة إقليمية لإعادة تدوير المخلفات، ونحن نملك الموقع الاستراتيجي والإمكانيات، وكلها عوامل قادرة على جذب الاستثمارات سواء الوطنية أو الأجنبية.

ولكي يتم إدارة الاقتصاد الأخضر وفق آلية واضحة تضمن الاستدامة والتميز، تضمّنت توصيات المنتدى الدعوة لتأسيس مركز وطني للاقتصاد الأخضر، وستكون مهمة هذا المركز العمل على توحيد وتكامل الجهود بين مختلف الجهات المحفزة والمهيئة لنمو هذا النوع من الاقتصاد، وسيكون المركز معني أيضا بوضع التشريعات المناسبة لإدارة الاقتصاد الأخضر، وتحديد مناطق الاستثمار الأخضر وإداراتها وفق برنامج وطني اقتصادي، يعمل على تعزيز مفهوم إدارة سلاسل الإمداد الخضراء، وأيضًا تعزيز الإنتاج الفكري والعلمي والإبداعي المرتبط بهذا الاقتصاد الأخضر، ومن ثمّ تحقيق عوائد اقتصادية متنوعة وإحراز النمو الاقتصادي المأمول.

ولأنّ القطاع الخاص بات يمثل العمود الفقري في مسيرتنا النهضوية، فإنّ المنتدى أعرب عن أمله في أن يتولى القطاع الخاص قيادة الجهود الداعمة للتحول نحو الاقتصاد الأخضر، من خلال تبني مبادرات تنموية في إطار المسؤولية الاجتماعية للشركات، وأيضًا من خلال ما يستطيع به هذا القطاع أن يضخه من استثمارات تدعم نمو المشاريع الخضراء.

ولم تغفل التوصيات الجانب التشريعي الذي يسرع من جهود "التحول الأخضر"، فقد حثت التوصيات على أهميّة إعداد وإصدار قانون للمحاسبة البيئية أو ما يُعرف بـ"المحاسبة الخضراء"، والذي من خلاله يمكن قياس مدى جدوى المشروعات الاقتصادية من جراء حساب تكلفتها على البيئة والعائدات المتحققة من أي مشروع في مقابل ما قد يتسبب فيه من أضرار بيئية تتطلب تكلفة مالية مرتفعة أعلى بكثير مما قد يتحقق من عائدات على خزانة الدولة.

وأخيرا.. يمكن القول إنّ دعم التحول نحو نموذج اقتصادي أخضر يعزز الاستدامة ولا يمنعنا من تحقيق إيرادات مالية، لم يعد طموحا بعيد المنال، نأمل أن يتحقق في غضون عقدين أو ثلاثة من الزمن، بل إنّه صار أولوية قصوى تتطلب البدء في تحقيقها خلال السنوات الخمس المقبلة لكي نجني ثمارها مبكرا ولا ننتظر حتى فوات الأوان.