دول الكاش.. والثمن البخس للثقافة

 

د. سيف بن ناصر المعمري

ليس هناك وقت أصعب للحديث عن الثقافة من أوقات الأزمات الاقتصادية، التي لا همَّ فيها للجميع -من حكومات وأفراد- إلا تأمين "النقد" و"الكاش"، الذي يستطيعون به تأمين نفقاتهم اليومية المختلفة، وديونهم المتراكمة؛ فمن الصعب على سبيل المثال أن تُطالب شخصا بأن يشتري كتاباً بمبلغ ادَّخره لينفقه في مطعم للترفيه عن نفسه في نهاية الأسبوع.

ومن الصعب أيضا أن تُطالب حكومة أن تخصص بعضًا من نفقاتها لتأمين كتب لمكتبة عامة تخدم فئة من سكانها، وهي قد أعلنت عن تقليص نفقاتها إلا عن الأشياء الضرورية، والثقافة في كل الأحوال لم تعد ضرورة في أيام الرخاء، فكيف تُعد ضرورة في أيام الأزمات والتقشف؟ لذا؛ يبدو أنَّ طرح "الثقافة" كموضوع للنقاش في هذه الأوقات -كما جرى في الندوة الفكرية التي استضافها المجلس الوطني للثقافة والفنون بدولة الكويت، تحت عنوان "إعادة صياغة الإستراتجية الثقافة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية"، وبتعاون مع الأمانة العامة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ووزارات التراث والثقافة بدول المجلس- أمر خارج نطاق الأولويات والقضايا الساخنة، وفعلا ينبغي أن يتم في صمت، وبمعزل عن أي حشد إعلامي وفكري، خشية أن يُتهم المشاركون بعدم الواقعية والاهتمام بقضايا هامشية في وقت لا صَوت يعلو في دول المنطقة وإعلامها غير صوت الأمن والاقتصاد وسبل تأمينهما في هذه الظروف الصعبة التي تضيق فيها الدوائر علي الجميع -حكومات وأفرادا- وتتزايد همومهم ومخاوفهم من الحاضر والمستقبل.

ومن كل هذه التحديات التي تتعرض لها هذه الدول التي وصفها عبدالله بشارة السفير الكويتي الأسبق في الأمم المتحدة، في افتتاح الندوة، بأنه كان ينظر إليها من قبل سفراء الدول الغربية على أنها "دول الكاش"، لا دول "الثقافة والإنتاج الفكري"، وأنه رغم مرور أكثر من أربعين عاما على إطلاق هذه الصفات، إلا أن الوضع من وجهة نظره لم يتغير بل يزداد سوءا، فالكاش يتراجع، والوعي الثقافي يتراجع، والمشكلات تزداد تعقدا، ومنتجاتنا الثقافية محدودة جدا مقابل براميل النفط التي ازدادت عددا وقلت سعرا. ألم نتعلم شيئا عن أهمية الثقافة طوال خمسة قرون من ظهور الدول الحديثة في المنطقة؟ ألم يحن الوقت للنظر للثقافة نظرة مختلفة غير تلك النظرة التقليدية التي تعدها بناءً ومؤسسة هنا وهناك؟ ومتحفا نُعِده ليكون ضريحا ندفن فيه ما تركه لنا الأجداد من مقتنيات ثمينة لا أحد يعرف عنها إلا الأجانب الذين يزورون بلداننا، ونأخذهم إلى هناك عنوة لنقول لهم إننا لا نزال أوفياء لأولئك الذين ناضلوا وغاصوا في أعماق البحار ورمال الصحراء، واحتملوا الكثير من الظروف الصعبة ليصنعوا ثقافة يمكن أن نطلق عليها ثقافة "التحدي والبقاء".

.. إنَّ الأسئلة التي طُرحت في القاعة الفخمة التي اجتمع فيها المشاركون في الكويت، كانت أكثر تعقيدا، وأعمق في مضمونها من قدرات جميع المشاركين -رغم الخبرة الكبيرة التي يمتلكونها في العمل الثقافي والأكاديمي، ورغم الأحلام الكبيرة التي جاءوا بها إلى هذه الدولة التي زرعت المعرفة والكتب في صحرائها قبل أن تزرع البنايات والعمارات قبل عدة عقود، فأثمر ذلك مبادرات ثقافية استفاد منها العرب في مختلف الأمكنة- ورغم صعوبة الأسئلة إلا أن المشاركين تعاهدوا على أن يظلوا يحفرون على جدار الثقافة، علَّهم يوجِدون ثغرة للنور - على حد تعبير الشاعر اليمني عبدالوهاب البياتي. والثقافة قبل كل شي هي نورٌ حين يشع في مدينة أو دولة أو مجتمع، فإن ذلك الإشعاع يقود إلى بناء واقع مختلف جدًّا؛ فالشعوب المثقفة هي أكثر قابلية للتماسك والانتماء وتطبيق قيم العمل والإنتاج، وهي بكل تأكيد مُجتمعات صَلبة لا سبيل لاختراقها، أو التأثير فيها، أو التلاعب بها، مُجتمعات تقود واقعها، لا مجتمعات تابعة لا رأي لها ولا رؤية في ما يؤول إليه هذا الواقع، وكأنها غريبة عنه، لم تخلق به، ولم يخلق لها، أليس هذا الاغتراب الثقافي هو إشكالية ليس من السهولة القفز عليها بمصطلحات كبيرة مثل "التصنيع الثقافي"، والسياحة الثقافية، والمؤسسات الثقافية، والاستراتجية الثقافية؟ ولمَ نُصر على النظر إلى الثقافة بالعقل النفطي الذي تعوَّد على أن لا يعطي قيمةً أو ثمنًا لأي شيء إلا إن كان يدر "دولارات"، حتى وإن كانت هذه الأشياء هي جزء من أرواحنا وذاكرتنا التي لا نعرف أنفسنا إلا بها، ألم يُصرح الرئيس الفرنسي في احتراق كاتدرائية نوتردام، مؤخرا، بالقول عن الحدث: "لقد احترق شيئا منا"، وهل مسارعته إلى عمل مسابقة عالمية لتصميم إعادة بناء سقف الكاتدرائية هو من أجل ما يُجلب من "يورو" أو من أجل ما تُمثله من قيمة للروح الفرنسية والغربية؟

إنَّ الأسئلة التي طُرحت حول الثقافة في هذه الندوة لها مخالب، وتكاد تمزق من يقف في مواجهتها، ولكن لا بد من الوقوف أمامها بشجاعة من أجل صناعة مجتمعات راسخة في ظل التحولات العميقة التي يمر بها العالم، وما نود أن نؤكد عليه هنا للقائمين على صياغة الإستراتجية وهم نخبة متميزة من مختلف دول المجلس، تملك حرصًا وإيمانًا على تقديم ما فيه خير لمجتمعات المنطقة، هو أننا وإن كنا نعاني من إشكالية استثمار الثقافة، إلا أن الإستراتجية التي نريدها هي تلك التي تطلق تنمية ثقافية فكرية تُساعد على تعزيز القيم الثقافية المختلفة لدى أبناء المجتمع، فبناء مجتمعات مثقفة، وتلبية الحق الثقافي، وإعداد أفراد مثقفين متزنين، هو أولوية قبل أي أولوية؛ لأن الاستثمار الثقافي قد يجلب لنا عوائد مالية، تذهب كما ذهب غيرها من أموال النفط بدون رشد خلال العقود الماضية. أما التنمية الثقافية، فتجلبُ لنا فردًا يكون سلاحًا لتحقيق التنمية بدلا من أن يكون مِعولًا لهدمها بفكره الضيق أو بتعصبه أو بنزعة الكراهية التي يحملها أو بضعف انتمائها، وشعوره بالمسؤولية الوطنية، أو بنزعتِه للاستهلاك والعيش عالة على الآخرين؛ مما يُضاعف من الاعتمادية في المجتمع، ويوسِّع من نطاق التهميش، ويجعل الاستقرار والرخاء مختلًا، ولا نُبالغ في التأكيد على ما قاله جان لاك وزير الثقافة الفرنسي في عهد جاك شيراك: "الثقافة والاقتصاد معركةٌ واحدة". وأقول إنَّ الخليجَ يُمكن أن يتقدمَ حين يتقدم التثقيف ويتراجع التسليع والتسليح على مختلف المستويات.