الفتاة التي تقتنص الأشياء

منّة ربيع | مصر

 

صَخبُ النفسِ يُكالِبُ سكونَ الليل.

أختي تنكبُّ عَلَى أَوْراقِ مادَّةِ التشريحِ وتُمعنُ النظرَ في بعض العظام حتى كاد ظهرُها يتقوسُ ، يستلقي أبي على مخدعِهِ وقد فَشِلَتْ محاولاتُه في اقتناصِ النومِ وظلَّ عالقًا بينَ الأفكار التي تتأرجحُ داخلَ رأسِه ، يقطَعُ كُلَّ هذا الصمتِ صوتُ جَدَّتي الماكثةِ في غرفتِها وهي تصرخُ بِاسْمي وتقذفُ بعضَ السُّبابِ لِأنَّ عِقدَها العتيقَ انْفرطَتْ  منه بعضُ الحبَّاتِ _ كانَ هديةَ جَدي في عيدِ زواجِهما الأوَّلِ _ وأنا لمْ أنبسْ ببنتِ شَفةٍ حتى جاءتْ أمي لتهدئتِها قبلَ أنْ تَأتيَ إليَّ لتقبِّلَ رأسي ظنًا منها أني نائمةٌ ، ولكني لمْ أهنأْ بنومٍ طبيعيٍّ منذُ أمد، أتوسد ذراعي لأراقبَ مِنْ كَثَبٍ

الغيومَ وهي  تخرقُ صَفوَ السماءِ ، ستمطرُ غدًا، لكنْ ليسَ ضروريًا أنْ يحدثَ هذا فأحيانًا تكتفي بغيمِها ولا تُمطر .القَمَرُ، تظهرُ عَلى وجهِهِ الندوبُ إثرَ حادثةِ فراقِ عاشقين لمْ يتبقَ على زواجِهما إلا شهرٌ واحدٌ - لكنَّ القَدَرَ قَطَعَ الوَصْلَ لحدِّ الكمالِ – بعدَ عَلاقَةٍ دامت سِتَّةَ أشْهُرٍ ، أَذْكرُ أنَّها كانتْ نفسَ المُدةِ التي قضيتُها في بطنِ أمي ، أسبحُ كما يسبحُ نَجمٌ متوهجٌ في فلكِهِ قبلَ أنْ تُسقطَهُ السماءُ - فـاخترقَ صفوَها-  كما سقطتُ من أمي دونَ درايةٍ منها بضئالةِ حجمي  وشحوبِ لوني المختلطِ بالزرقة ، وحاجتي للشبع، لَكِنِ الحياةُ دومًا تَحْمِلُ عَلَى عاتقِها عُقدةَ النقصِ ، لكني أعرفُ أن اللهَ قد خَصَّ أُناسًا بصفةِ الكمال ، أختي ذاتُ التسعةِ أشهر، صاحبةُ العينينِ الزرقاوين ، ورقةِ القسمات ، وخصوبةِ الجسد، تتفاخرُ كثيرًا لأنها تنالُ إعجابَ الجميعِ حتى أساتذةُ المدرسةِ كانوا يمدحونَ دهاءَها إلى أنْ درست الطب ، بينَما يُكثرونَ الشكوى لأبي لأنَّ النُّعاسَ يغْلِبُني قبلَ أنْ أُكمِلَ واجبي فتسقطُ مني النهايات .

يصرخُ أبي في وَجْهي " أكملي ما تفعلينَهَ كي لا تموتي " .. ولا أمَلَ لي في النجاةِ إذا حَلَّ عليَّ العقابُ وتَرَكني أُصارعُ امتزاجَ هَلَعي معَ ظلامِ تلك الغرفةِ المهجورةِ ذاتِ البابِ الحديديِّ الصدئِ وخفقانَ قلبي من الرعب ، فأهرعُ إلى غرفةِ أمي  لأُخبِّئَ رأسي بينَ نهديْها وأنخرطَ في البكاءِ وترويَني من لبنِها قبلَ أنْ أجفَّ وأنضُبَ ، لكنْ يبدو أنَّها نائمة.

و لمْ تتدخلْ جدتي إلا استغلالًا لفكرةِ تنكيلي لتذكُّرِها حَبَّاتِ عِقْدِها المنفرطِ وعدمَ إكمالي طَيَّ ملابسِها الباليةِ ووضْعَها داخلَ خِزانتِها بالأمس ، فـرمقتني بنظرةِ سخْطٍ ودَعَتْني بالعاجزةِ ذاتِ النقص .. لكني دومًا أترصَّدُ آثارَ النقصِ عَلى جلدِها المتغضِّنِ مُنذُ مَوتِ جَدّي ، فهي تشيرُ إلى أنَّ مُخْتَصَرَ الحياةِ في العروقِ التي نَتَأتْ عَلى جلْدِها فكانتْ كَرِوَايَةٍ مَاتَ كاتبُها قَبْلَ أنْ يُكمِلَ مَشهدَها الأخير. يصرخُ أبي في وَجْهي  "أكملي ما تفعلينَهُ كَيْ لا تموتَ جَدَّتُك "

أختي لَمْ تُبْدِ أيَّ رَدِّ فِعْلٍ غيرَ أنها أطْلَقَتِ العنانَ لنَظَراتِها لكي تُشْعِرَني بالنقاطِ الفارقةِ بيني وبينَها  متفاخرةً بكمَالِها ، فأصابَتْني بسهامها حتى خَارَتْ روحي ، فهرعتُ إلى غرفةِ أمي لألتحمَ بها وأخبرَها .. أنَّ كُلَّ اكتمالٍ تَمَّ بقطعةٍ مني عندما جاعَ العالمُ ، دون اكتراثٍ منهم  لروحي التي انفرطتْ تحتَ الأقدامِ ، لكنْ يبدو أنَّها نائمة .. 

 مُنْذُ زَمَنٍ وأنا أُمارسُ لُعْبةَ اقتناصِ الأشياء ، فسرقتُ من خِزانةِ جَدتي قطعةَ قُماشٍ ولَمْ أُكْمِلْ طيَّ ملابسها لأصنعَ  لأمي فستانًا مثيرًا ترتديه في عيدِ زواجِها ، صنعتُهُ بلحنِ أغنيةٍ وكلماتِ قصيدةٍ كنتُ أكتبُها كُلَّ ليلةٍ ولا أكملُ واجبي ،  أُزيِّنُهُ بِلآلئَ تعكسُ ضوءَ النجومِ عَلى شاطئٍ انفردَ به عاشقان قبلَ أنْ يتفرَّقا ويُجْرَحَ لأجلهما القمر، وحبَّاتُ العِقْدِ أخفيتُها لأصنعَ لأمي عِقدًا آخرَ حتى تَظْهرَ بكاملِ أنوثتِها فيعودُ شَبقُ أبي وينظرانِ في مسألة تكويني ، فـمُذْ كنتُ في رَحمِ أمي وأنا مُصَابةٌ بعدمِ الاكتمال .

-أمي ؟ أمي لماذا لا تَرُدِّين ؟.

تعليق عبر الفيس بوك