تصريحات بن علوي والواقع العربي

مسعود الحمداني

 

استشطتُ غضبًا، واستنكرتُ بشدّة، واحتججتُ بقسوةٍ حين قرأت التصريح المنسوب لمعالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية حول وجوب "طمأنة" إسرائيل لتعيش بسلام.

كان التصريح صادمًا، واعتبرته خارج تقاليد الدبلوماسية العُمانية المعروفة بثوابتها، وأنَّه ما كان على الوزير أن يتصدَّر لإطلاق مثل ذلك التصريح، غير أنَّني بعد أن هدأتُ، وذهبت عني هستيريا الغضب، تساءلتُ عن السبب الذي جعل بن علوي -وهو المعروف بدهائه السياسي- أن يُطلق هذه القنبلة المدوية في هذا الوقت بالذات، وهل ما قاله يُمكن أن يكون تسويقا لإسرائيل ومشروعها التوسعي، وخذلانا للشعب الفلسطيني؟ وهل هو خروج عن النص العُماني المتضامن مع القضية الفلسطينية؟!

ولكي أصلُ إلى إجابة تقنعنِي شخصيًّا، تساءلتُ عن: ستِّين عامًا أو تزيد من حالة اللاحرب واللاسلم التي تعيشها ما يُسمَّى بـ"دول الطوق"، وعن الحروب الخاسرة التي خاضها العرب حينما كانت إسرائيل لا تزال في المهد، وكانت كقطرة في بحر عربي هادر. تساءلتُ عن المشرَّدين واللاجئين الفلسطينيين الذين يزيدون كلما نشبت حرب بين العرب وإسرائيل، وعن الجرائم الإسرائيلية التي يشجبها العرب في العلن ويشربون نخبها بالمساء. تساءلتُ عن عبارات التنديد والشجب والاستنكار التي تُطلقها الجامعة العربية كقاذئف لا تعبُر إلا فوق سطح الجامعة، بينما تصُول إسرائيل وتجول فوق الأراضي الفلسطينية والعربية دون أن يحرك العرب ساكنا. تساءلتُ عن أخوة الدم والتراب الفلسطينيين، وصدق نوايا الفصائل في حلحلة الوضع المتجمِّد بين الضفة الغربية وغزة في ظلِّ حكومتيْن لشعب واحد منقسم وبائس ومشرد ومحاصر وجائع ولا يملك قرارَه، بينما يزايد قادة حركتي حماس وفتح على الوطنية والقضية. تساءلتُ عن حقيقة وجدّية مواقف الدول العربية والإسلامية من القدس التي باعوها بثمن بخس في "صفقة القرن" وما بعده. تساءلتُ عن تلك الألغام المزروعة في الخطب الحماسية، والتي لا تنفجرُ إلا بأصحابها. تساءلتُ عن التنكيل الذي قضاه الفلسطينيون في دول عربية بسبب تهوُّر قادتهم وانتهازيتهم، ومررتُ بالذاكرة على كثير من الأمور التي نراها ونقرأ عنها ونسمع بها، فإذا بي أجد أن "دولة فلسطين" أصبحت حُلما يضحك به القادة على الشعب المغلوب على أمره، وأن تلك الأرض المقدسة أضحت عالما منسيّا ستطويها الأيام في ظل انقسام عربي وإسلامي مزمن لا أفق لنهايته، وأنهم -أي الساسة- ما عادوا سوى ظواهر صوتية وفقاعات كلامية لا تُخيف إلا الصغار، وأيقنتُ بعدها أن تصريحات بن علوي كانت هي السُّخرية اللاذعة من المواقف العربية المتخاذلة والجبانة التي "تقتل القتيل ثم تمشي في جنازته"، وأن تلك التصريحات ما كانت لتأتي لولا اليأس الذي وصل إليه العرب نتيجة التناحر والتنافر والخلافات البينية، بل وقيام بعض الدول بـ"طمأنة" إسرائيل فعليًّا من خلال اختلاق عدوٍ آخر يوجهون إليه أسلحتهم ومكائدهم وهي إيران، وتفتيت كل جبهة مقاومة مسلحة ضد إسرائيل بحجة أنها تساند إيران، في مسرحية باتت فصولها وأبوابها مفتوحة وواضحة لكل عين حولاء.

.. إنَّ السلطنة ليست دولة محورية في الحرب ضد إسرائيل، لكنها جزءٌ من جسد عربي يواجه المصاعب، لا يملك إلا الكلام الشفهي، ويعيش حالة ازدواجية على كافة المستويات، ولا يملك قراره. ورغم أنها في آخر طرف في الوطن العربي، إلا أنها الدولة الوحيدة التي امتلكت شجاعة اتخاذ القرارات المصيرية دون أن تكون إمّعة أو أن تُساق وراء القطيع، أو أن تخدعها الشعارات القومية والعروبية الانتهازية، وأثبتت على طول تاريخها الحديث نظرتها العميقة نحو القضايا المختلفة، وفلسطين ليست استثناءً من القاعدة، ولعل تلك التصريحات "الصادمة" جاءت كصرخة مزلزلة وسط الضوضاء الإعلامية والكلامية لكي يلتقط الفلسطينيون أنفاسهم، وينتبهوا لقضيتهم الوجودية، وينبذوا خلافاتهم وراء ظهورهم، وهي صفعة على وجه السياسة العربية المذبذبة، ولكي تتضح مواقف الدول المنافقة التي تبيع وتشتري على حساب القضية الفلسطينية، ولتصحو من سباتها، وتقوم بدورها "المعلَن"، وتنفذ حلمها الذي نادت به وهو "رمي إسرائيل في البحر"!

لقد كانت تصريحات بن علوي مُرَّة كعلقم لا يمكن استساغته، لكنها رغم ذلك حملت في طياتها سخرية لاذعة من المواقف العربية البائسة، ولعله صرّح بالنيابة عن كثير من الساسة العرب بما يدور في صدورهم، ولكنهم لا يملكون شجاعة الإعلان عنه، كما أنها تدق ناقوس خطرٍ في وجه الفصائل الفلسطينية ذاتها المنفصلة عن بعضها، والمزايدة على قضية شعبها، وغير الجادة في المصالحة حفاظا على مكتسباتها الخاصة، فلذلك -ولأكثر من ذلك- ستظل فلسطين قضية معلقة بين أروقة الأمم المتحدة، ولن تقوم دولة حقيقية ومكتملة الأركان وذات سيادة للفلسطينيين إلا إذا تخلّى العرب عن مؤامراتهم، وامتلكوا أسباب القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية. وبما أن العرب لا يملكون كل هذا، ولا يملكون قرارهم، فليكتفوا بما تهبه لهم إسرائيل من فتات، وليكتفوا بالصمت، في زمن عربي منافق.. وللقدس رب يحميه.

Samawat2004@live.com