مدرين المكتومية
يشهد العالم من حولنا تطورا تكنولوجيا وصناعيا يؤثر بدرجات متفاوتة على البيئة ويعرضها لمخاطر عديدة تهدد استدامتها وتنذر بكوارث بيئية لن يستطيع الإنسان مواجهتها إلا بتضافر الجهود، ومن هنا نشأت الحاجة إلى أهمية تبني نموذج اقتصادي صديق للبيئة يسهم في الحفاظ على مكوناتها وصون مواردها، وهذا النموذج القائم على تعزيز الإنتاجية وحماية البيئة في آنٍ واحد، يطلق عليه "الاقتصاد الأخضر".
والاقتصاد الأخضر هو منظومة اقتصادية متكاملة تستهدف تحقيق التنمية المأمولة في شتى المجالات مع الحفاظ على البيئة وحمايتها من المخاطر المحدقة بها. وهناك أشكال كثيرة للاقتصاد الأخضر، مثل الطاقة المتجددة وعمليات تدوير الموارد المائية والصرف الصحي، والمخلفات، وغيرها، إلى جانب العمل على ما يسمى بـ"العمارة الخضراء"، وكل ذلك أسهم في ظهور مسميات جديدة مثل المدن الخضراء والمنتجات الخضراء والصناعة الخضراء، وكلها تشترك في كونها صديقة للبيئة وتعزز الاستدامة.
ما أودُ أن أسلط عليه الضوء في هذه السطور، هو أهمية تضافر جهود المجتمعات والمنظمات في كل دول العالم من أجل تشجيع التوجه نحو الاقتصاد الأخضر، لأننا عندما نتحدث عن هذا النوع من الاقتصاد فإننا نشير بوضوح إلى شكل من أشكال التنمية المستدامة التي تساهم وبشكل كبير في تغيير أنماط الحياة وتغيير الكثير من المفاهيم الحياتية، وبما يعمل على تقدم وتطور مسيرة الحضارة الإنسانية. لاسيما وأنّ أبعاد التنمية تتشابك في مختلف المناحي الحياتية، علاوة على ارتباطها الأصيل والمباشر بالإنسان.
وفي ظل ما يمر به العالم من تحولات في أنظمته الإيكولوجية، باتت الحاجة ملحة للغاية في تبني نماذج تنمية مستدامة قائمة على مفاهيم ومخرجات الاقتصاد الأخضر، بما يساعد البشرية على مواجهة التحديات التي تشكل عائقا أمام استدامة التنمية. وعندما نتحدث عن العالم فإننا في الوقت نفسه نشير إلى السلطنة، خاصة وأنّ عمان من أوائل الدول التي أولت الحرص الكبير تجاه القضايا البيئية بفضل الاهتمام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- بالجوانب البيئية، ولا أدل على ذلك من جائزة السلطان قابوس لحماية البيئة، والتي تقدم على المستوى الدولي، تشجيعا لمبادرات حماية وصون الموارد البيئية الطبيعية.
ولذلك من جانبنا في جريدة الرؤية، وضمن نهج إعلام المبادرات، أن نُطلق النسخة الثانية من منتدى عمان البيئي يومي 17 و18 أبريل الجاري، تحت عنوان "الاقتصاد الأخضر.. مستقبل التنمية الآمن"، حيث سيشارك العديد من خبراء البيئة من داخل وخارج السلطنة، ليدلوا بدلوهم في هذا المحفل الوطني ذي البُعد الدولي، حيث يشارك لأول مرة في عمان الدكتور المهندس محمد جمال كفافي رئيس المجلس العالمي للاقتصاد الأخضر وكبير مستشاري الصندوق العالمي للتنمية والتخطيط بالأمم المتحدة، فضلا عن مشاركات خليجية وعربية.
وخلال الشهور الماضية وأثناء العمل على تحضيرات المنتدى، تبيّن لي أنّ الاقتصاد الأخضر ليس رفاهية كما قد يظن البعض في الوهلة الأولى، بل إنّه تحول ضروري وأساسي كي نضمن لأنفسنا والأجيال التي تأتي من بعدنا العيش في بيئة مستدامة، بيئة لا تتعرض للتدهور المستمر بسبب التنافس المحموم بين البشر على ابتكار وسائل تعزز من رفاهية الإنسان وتنمو بالاقتصادات، لكنّها في الوقت نفسه تدمر البيئة وتضر بالتوازن الإيكولوجي.
ما أودُ أن اختتم به هذا المقال، هو التأكيد على أنّ التجارب الدولية الرائدة في مجال الاقتصاد الأخضر، برهنت على نجاعة هذا التوجه وخاصة في الدول الأوروبية، التي استطاعت أن تخفض بنسب كبيرة جدا معدلات الاحتباس الحراري، فمثلا ألمانيا ستكون قادرة على خفض الانبعاثات بنسبة تصل إلى 80% بحلول عام 2050، فيما تقع مسؤولية أكبر على دول آسيا وخاصة الصين والهند والدول الصناعية الكبرى. ومما يبعث على الأمل في عماننا الغالية في هذا السياق، أنّ الجهود لم تتوقف من أجل تعزيز الاقتصاد الأخضر، منها مشروع إنشاء مكتب "مساندة الاقتصاد الأخضر"، الذي سيعمل على دعم الإنتاج والتوجه إلى الاقتصاد الأخضر في السلطنة، وتقديم الدعم اللازم من تدريب وتأهيل للأفراد القائمين على المشاريع الحكومية، بما يكفل تبني معايير الاقتصاد الأخضر فيما يجري تنفيذه من مشروعات مع الاستفادة من الموارد الطبيعية، وصولا في نهاية المطاف إلى تحقيق الفوائد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية المستدامة.