مستقبل الثقافة الخليجية

 

 

د عبدالحميد إسماعيل الأنصاري

الثقافة.. هي مجموعة السمات: الروحية، والمادية، والفكرية، والنفسية، والاجتماعية، والحضارية التي تميِّز مُجتمعا عن غيره من المجتمعات، وعلى ذلك فالثقافة الخليجية: هي تلك السمات السائدة في المجتمع الخليجي والتي تميزه عن بقية المجتمعات، أو فلنقل: إنها طريقة الحياة التي يَحياها الإنسان الخليجي في مجتمعه ويتفاعل بها مع الآخرين: اجتماعيًّا، وسياسيًّا، واقتصاديًّا، ومعرفيًّا، والتي هي في النهاية تجسِّد نظرته لنفسه ولمجتمعه، مواطنين وغير مواطنين، ولنظامه السياسي ولغيره من المجتمعات العربية والإسلامية والعالم أجمع.

الثقافات متعددة، ولكلِّ ثقافة خصوصيتها وتميزها "وجعلناكم شعوباً وقبائل"، يجمعُها المشترك القيمي الإنساني الغائي "لتعارفوا"، على قاعدة "ولقد كرمنا بني آدم"، لكن هناك ثقافة ترقى وتنهض بمجتمعها وتحقق السعادة لأفراده، وثقافة يشقى بها مجتمعها وتسبب تخلفه وبؤسه (د.جابر عصفور).

 ما أهم تحديات الثقافة الخليجية؟

لعلَّ أبرزها: كيف يُمكن تجاوز حالة التناقض بين القيم التقليدية وقيم التحديث المكتسحة بقوة المجتمع الخليجي؟

 كيف نتجاوز حالة التناقض المربكة بين: وجه خارجي حداثي يتغنَّى بحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية والمواطنة وقبول الآخر، ووجه آخر داخلي محافظ يرعى روابط الدم والإقصاء والتمييز بين المواطنين والتفرد بالقرار؟

مظاهر التناقض في المجتمع الخليجي عديدة: سياسيًّا وقانونيًّا واجتماعيًّا:  تجنس دولنا مستجلبين غرباء على الخليج وتحرم مستحقين ولدوا وتعلموا ونشأوا فيه (حملة الوثائق والبدون)، نردِّد شعارات مكافحة الفساد ونسمح بتزاوج المال والسلطة وهو أكبر مسبباته، تساوي دساتيرنا بين المواطنين، وتشريعاتنا تمايز بينهم وتصنفهم، وتحرم أبناء المواطِنة المتزوجة من أجنبي جنسية أمهم، نتغنَّى بحُريات التعبير ونضِيق بالمغردين ونرهبهم ونفرض رقابة إعلامية وتُصَادر الكتب، نتظاهر بتمكين المرأة ونقيدها بنظام الولاية، نرفع مبدأ الكفاءة الوظيفية لكننا نعتمد روابط الدم والسلالة والقبيلة والعائلة في التعيين.

كيف يتم التجاوز؟

لا يعني التجاوز التخلي عن الثوابت الدينية والوطنية؛ اليابان مثلا: مجتمع حداثي لم يفقد هويته، ماليزيا، تركيا. والمجتمع الخليجي قادر على التجاوز، دون التنازل عن ثوابته، بتفعيل المفاصل الحاكمة للثقافة المجتمعية: تطوير التعليم، ترشيد الإعلام، تجديد الخطاب الديني، تخليص التشريعات من الروح التمييزية، تفعيل مفهوم المواطنة، إعلاء حقوق الإنسان، توسيع قاعدة المشاركة، وأخيراً: تحديث الثقافة العربية باستيعاب تيارات العصر (تحديات الثقافة العربية: د سليمان العسكري).

مستقبل الثقافة الخليجية (د.عبدالحميد الأنصاري):

دخل التحديث المنطقة بدخول الوكيل السياسي البريطاني وعقده معاهدات الحماية مع شيوخ الخليج، قبل قرن ونصف القرن، بدأت عملية بطيئة، تسارعت وتيرتها باكتشاف النفط واستقلال الدول الخليجية وانفتاحها على العالم. وبتأثير المد العولمي، هبَّت رياح التحديث القوية على البيئة الثقافية التي ظلت قروناً، بيئة تقليدية ساكنة، لتشتبك مع قيمها، مولدة أشكالاً من التزاوج أحياناً والتصادم أحياناً أخرى، تفاوتت حِدته تبعاً لحماسة النظام الحاكم للتحديث من ناحية، ولدرجة المقاومة المجتمعية للوافد الجديد من ناحية أخرى، وبتزايد احتياجات المنطقة للتقنيات الحديثة، لتطوير مصادر الدخل وتنويعها ومضاعفة الإنتاج، وتحديث أنظمتها الإدارية والسياسية والتعليمية والعسكرية...إلخ؛ لحاقاً بركب التقدم وحماية لأمنها ومصالحها، فإن قيم التحديث تقتحم الفضاء الثقافي والاجتماعي بقوة، تكتسب مساحات ومواقع متزايدة، تزول قيم قديمة لصالح قيم جديدة كل يوم. تتسلل مخترقة الساحة بأساليب ماكرة، كروح تسري في اللاوعي المجتمعي، خلف ظواهر الأمور، مشكلة وعياً جديداً وثقافة جديدة "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".

في هذا الاشتباك التفاعلي بين قوى التحديث وحراس القديم، يتخذ كل طرف إستراتيجياته الهجومية والدفاعية، فالتقليديون لا يستطيعون رفض الواقع العالمي وحركة التاريخ ومسيرة التقدم، فيعمدون إلى الالتباس ببعض لبوس الحداثة والإفادة من تقنياتها ونظمها ومنتجاتها، ليتمكنوا من الاستمرار وعدم الانعزال، بينما يعمد التحديثيون إلى الاستفادة من دهاء التاريخ، للنفاذ في التقليد واحتوائه، سيرورة تاريخية طويلة (د.محمد سبيلا، كتابه المرجعي المهم: "مخاضات الحداثة").

وختاماً: "المال الخليجي الريعي" معوق، يحاول تأجيل حسم هذا الصراع، لكن لا بد من عقلنة الثقافة، وصولاً إلى ثقافة خليجية ملائمة للعصر.

* كاتب قطري

تعليق عبر الفيس بوك