إشكالية "إخوان" ليبيا

 

فوزي عمار*

* كاتب ليبي

بِدعَة البيعتيْن والحاكمية والعمل السري

تبنَّى سيد قطب فكرة "الحاكمية" نقلا عن المفكر الهندي أبو الأعلي المودودي، لأوَّل مرة في التاريخ الإسلامي، فلم يرد هذا المصطلح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو عن الصحابة أو الأئمة الأربعة مُطلقا.

كان المودودي يعيش في مجتمع هندي أغلبيته يدين بالهندوسية والبوذية وقلة مسيحية وقلة مسلمة، فكانت لب الفكرة تقوم على أسلمة المجتمع غير المسلم، نقلها سيد قطب المتذبدب نفسيا، فقد انتقل من الإلحاد إلى التطرف بعد عودته من أمريكا، وحالة عدم الاندماج التي عاشها في أمريكا، ونظرا لظروفه النفسية وسجنه من قبل الرئيس عبدالناصر، وحكم الإعدام عليه عام 1966. ونقل الفكرة وشرحها بعد أربع أو خمس سنوات من ترجمة كتب المودودي للعربية في العام 1950، وهو تاريخ انضمامه للإخوان، وأسقطها على مجتمع مصري أغلبيته مسلمة وأقلية مسيحية؛ فكانت الفكرة مستهجنة لدى الإسلام الوسطي المصري المتجذر عبر مؤسسات علمية دينية عريقة مثل الأزهر، وكانت كتابات سيد قطب عبارة عن أدبيات وإنشائيات صاغها بلغة ساحرة كان يملكها ويتمكن منها، ومنها كتاب "معالم في الطريق" والذي يصل فيه لنتائج دون مقدمات مبنية على منهج قويم.

كانت الفكرة تعاني من مشكل منهجي؛ فداخل مجتمع مسلم تخرج جماعة تريد أسلمة المجتمع، وداخل هذه الجماعة ينشأ حزب يريد أن يحكم باسم الإسلام!! فكان سبب سقوط الإخوان عامة -من وجهة نظري- نتيجة لهذا الخلل المنهجي أولا، ولأسباب أخري؛ مثل: العمل السري، واللجوء للعنف والقتال لاحقا. وتبنت الجماعة الفكرة لأنها تنص على أن التفاسير والاجتهاد والأوامر هي حِكر لمرشد الجماعة فقط، وعلى الأتباع السمع والطاعة والتنفيذ دون اعتراض أو نقاش.

أما إخوان ليبيا الذين ينقلون عن إخوان مصر، فكان كلام السيد الكبتي "مراقب إخوان ليبيا" كان كلامه عن مجتمع "ليبيا المسلم كليا" كلاما مضحكا ومثيرا للاستهزاء؛ حين قال: "نحن نريد أسلمة المجتمع المسلم سلميا"!

فإخوان ليبيا في مأزق بنيوي؛ فكيف يكون لجماعة داخل مجتمع مسلم مائة بالمائة ومنهجية إسلامية تريد أسلمة المجتمع؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى لمن يكون الولاء في حالة الخلاف بين ليبيا ومصر (بلد المرشد والمنشأ) في حالة حكم الإخوان مصر؟ إذا كان الولاء للمرشد في مصر شيئا أساسيا لقادة التنظيم وفق القانون الأساسي للجماعة والمادة الرابعة التي تنص على عدم اتخاذ أي قرار يخص الأقاليم إلا بعد موافقة المرشد العام، وبسطاء وأفراد الإخوان لا يعلمون بهيكلية الجماعة، كما يقول القيادي الإخواني السابق ثروت الخرباوي.

والسؤال الشرعي الجوهري: كيف يكون للمؤمن بيعتان وولايتان؟ ولاية للحاكم في بلده وولاية للمرشد في مصر، فهي بدعة لم يأتِ بها أي من أصحاب البدع من قبل. ثم إن مصطلح الحاكمية يعتبر بدعة؛ فلم يذكر في القرآن أو السنة أو عند الإئمة الأربعة أو مع إسلام مؤسسة الأزهر الوسطية أو مؤسسة الزيتونة في تونس، أو غيرها من المؤسسات الدينية العريقة والعتيدة. بل ذُكِر بصيغة "الحكم لله" وأول مرة ذكر على يد الخوارج الذين خرجوا للقتال ضد سيدنا علي بن أبي طالب وضد معاوية بن أبي سفيان، وكفروا الاثنين معا، وارتبطوا بالتكفير والتطرف، وللمفارقة الغريبة أنهم سُمُّو بـ"الثوار" في تلك الفترة.

وكما أسلفت، نقل سيد قطب فكرة المودودي للعربية في وقت وظروف كتابة هذه الفكرة؛ حيث كان في السجن بعد خلافه مع الرئيس عبدالناصر، والحالة النفسية لكاتب يعيش في غياهب السجن ينتظر حكم الإعدام، فكيف تريده ينظر إلى سجانيه؟ مما دفعه لتكفيرهم جميعا، مستفيدا من السيولة اللغوية التي كان -سيد قطب- يمتلكها فقد كان كاتبا ساحرا قد عمل في النقد الأدبي والفني مع الكاتب الكبير العقاد، الذي يقول هو نفسه عنه: "إنَّ العقاد أنقذني من الإلحاد". كما أن التنظيم السري للجماعة، والعمل السري لها، يجعلها جماعة وشبكة مريبة لا يعرف أحد عن أهدافها ومن يُحركها حتي من المنتمين للحركة؛ فالذي يعرف الحقيقة هم قلة في مكتب الإرشاد. أما البقية، فيقولون بالسمع والطاعة، حتي وإن تظاهروا أنهم على علم بكل ما يجري داخل الجماعة والتنظيم.

من جهة أخري، يُعتبر تنظيم الإخوان "دكان بقالة سياسي" مصري غير مسموح لغير المصري إدارته مهما علا كعبه. لقد مات د. حسن الترابي المفكر والمثقف الموسعي والسياسي المخضرم والكاتب السوداني المعروف، أحد أهم مفكري الإخوان بل وأشهرهم، دون تقلُّد منصب المرشد الذي سعي له مرارا.

كما سعى لاحقا عضوا التنظيم المفكر التونسي راشد الغنوشي، الذي خرج مؤخرا ليقول إن النهضة في تونس انفصلت تنظيميا عن التنظيم الدولي للإخوان، ليحمي نفسه قانونيا من تهمة التخابر مع أجنبي. وليس كما فعل خالد المشري رئيس مجلس الدولة في ليبيا في لقاء مع قناة "فرنسا 24" الذي أعلن على الهواء أنه يتبع التنظيم الإرهابي للإخوان المسلمين. وهذه رسالة لإخوان ليبيا ليعرفوا أن أيًّا منهم مهما وصل من درجة في التنظيم السري للإخوان والجماعة، فأنتم تابع لمرشد في بلد المنشأ، وبلد المنشأ مصر التي قطعت مع هذا التنظيم واعتبرته إرهابيا، وزجَّت بقياداته في السجون بعد الجرائم المتكررة والعمل السري والتخابر مع دول أجنبية.

لقد تأسَّست جماعة الإخوان في مدينة الإسماعيلية بمصر سنة 1928 على يد مدرس الخط العربي حسن البنا، الذي كان يملك مهارات تنظيمية عالية، وبعلاقة قوية مع بريطانيا ثم لاحقا مع أمريكا، وهذا ما أشار إليه مؤلف كتاب "مسجد في ميونخ" آين جونسون الكاتب الكندي الذي يرصد في مقال نشر في "وول ستريت جورنال: تاريخ العلاقة بين الإخوان والأمريكان، ويقول: إنه "تحالف سري بدأ في الخمسينيات؛ تم الاتفاق على القتال ضد الشيوعية وتهدئة التوتر في أوروبا".

لقد خرجتْ معظم الجماعات التكفيرية من عباءة الإخوان؛ فالقاعدة مثلا أسسها عبدالله عزام الإخواني، وتبنتها المخابرات الأمريكية لإسقاط العدو السوفيتي في أفغانستان، قبل أن تتحول لعدو لأمريكا، بعد أن تركتها للعراء في نهاية الانتصار على الاتحاد السوفيتي، الذي تفكك على يد الرئيس الروسي يلتسين، فوجهت بنادقها لحليف الأمس: أمريكا في تفجيرات نيروبي ودار السلام والخُبر، ثم توجت بغزوة برجي التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر.

جاء مشروع "أوباما-هيلاري كلينتون-فيلتمان"، تتويجًا للعلاقة التاريخية لقيادة فصيل الإخوان جماعة الإسلام السياسي في منطقة الربيع العربى، وإصلاحا للخطأ الفادح لتعويض الأفغان العرب وتمكينهم في بلدانهم، وبتوصية من مؤسسة راند التي تغذِّي تقاريرها الدوائر الأمريكية الفاعلة مثل الكونجرس والبنتاجون والسي.آي.إيه والأمن القومي.. العملية التي أطلق عليها أوباما "الربيع العربي"، ولكن المشهد تغيَّر برُمته بعد وصول ترامب للسلطة في أمريكا، والذي أفشل المشروع كليًّا انتصار الجيش المصري لرغبة الشارع الذي خرج ضدهم بأكثر من ثلاثين مليون متظاهر. وكان مشهد سقوط الإخوان في بلد المنشأ مروعًا وفاضحًا لكل سلوكيات التنظيم الإجرامي.. فقد الإخوان روح الشارع في تونس بعد أدائهم السيئ خلال سنة من الحكم بعد سقوط الرئيس زين العابدين بن علي.

وجارٍ مشهد السقوط في ليبيا بعد تحرُّر إقليم برقة نهائيًّا بفضل الجيش الليبي ومعركته ضد الإرهاب، ولم تبقَ لهم سوى تواجدهم في طرابلس، وفك هيمنتهم عليها وعلى مؤسساتها "وقى الله الأبرياء شرهم". طرابلس التي ستكون فيها مراسم دفن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين قريبا جدا.

إنَّه مكر السياسة ولعنة التاريخ، ونتائج تلبيس المقدس "الدين" على المدنس "السياسة".

تعليق عبر الفيس بوك