النقش على المرآة.. قراءة في "هذيان الفضة لسوسن الحجة"


د. زكوان العبدو| سوريا

       أعشق الزوايا
       الحادة في اللغة
       وانفراج
      الضوء في
      الفكرة
       إنه عشقٌ يتجلى في تشظيات البحث عن مخبوء الذات، ومجاهيل الروح، وسراديب الكون، عشقٌ محمومٌ، مأخوذٌ بالهذيان المشتعل في مرآة سوسن الحجة في ديوانها الثاني: (هذيان الفضة)، الصادر عن دار كنعان (2018)، وهو يقع في مئةٍ وثمانٍ وثلاثين صفحةً، تنشغل بحياكة فضة القمر، والماء، والضوء، لتشع المرآة صقلاً، وبحراً يتماوج، وإبراً من زجاج، وصمت.
    لا أريد أن أكتب قراءةً ترويجيةً كقراءاتٍ كثيرةٍ بتنا نجدها في غير موقع، ومجال نشر، ولا أدعي أن ما قرأته في هذا الديوان لم يسبق أن قرأت في مضامينه من قبل، أو أن الشاعرة تفتح عالماً جديداً من عوالم القصيدة الحديثة، إنما قرأت خصوصيةً في التجربة تبثها روحٌ شاعرة تنقش على مرآة (الشعر/ الذات/ الكون)، بماء البحر، والنهر، والصوت، والصمت، والضوء، والظل.....، وسأنفض بعض "غبار" هذيان الفضة، وأجمع بعض "بذور" فضة الهذيان بما يتيحه المجال، هنا، إذ تتعدد الأقانيم التي تتوزع فيها القصائد، ما يجعلنا بحاجة إلى قراءةٍ مستفيضة للتفصيل فيها، على أنها تلتقي في الوجود مقابل العدم الذي تلتقي  فيه الاتجاهات في غياب ذاك المخاطَب المبهم حدَّ الاتضاح، هذا المخاطّب يحضر في القصائد بعد كل مطارحة من مطارحات الذات المنهمكة بالريح، والمسافة، والكتابة، وفي ولادتها، وتشكلها الذي تريد أن تُخلَق في مداه، تقول:
            أتشرنق في مداك
            اِسحبني خيطاً خيطاً
            اِنسجني غطاء
والجميل الذي نلحظه على المستوى الصوتي، هو هذه الثنائية الشفيفة التي يتناوب فيها صوت الشاعرة مع صوت المخاطَب الذي يوحي البوح الأنثوي أنه الرجل/ الحلم، فهي تبث احتياجها إليه من غير أن تحدده، أو ترسم ملامحه، فيأتي حضوره على الدفق الموسيقي ذاته، مندمجاً بصوتها، تقول على لسانه، وقد انتقل الصوت منها إليه:
           في صباحٍ يندى
           كنقطةٍ مضيئة
           في توحش الحياة
           أختال بين كائنين
           أنتِ والكتابة
 ولولا ورود (أنتِ) لما عرفنا أنها المخاطَبة، ولظننا أن الشاعرة هي التي تتكلم، وهذا التوحد لانراه عدم قدرة منها في تقديم سياق تعبيري مختلف، إنما نراه تناغماً روحياً بينهما، فهو يختال بين الشاعرة والكتابة، وهي تختبئ بين ضفتي الكلمة ليأخذها، وينجو بذاتها به، وينجيها به أيضاً، لنقرأ في سياقٍ مضمرٍ في جملةٍ شعريةٍ انسابت بهدوء، وتعابير بسيطة، تَكثُّفَ ملاذ الروح الهائمة المكتملة باللقاء:
                  لا ملجأ لي
                  أختبئ بين ضفتي الكلمة
                  اِنجُ
                  بي
                  إلى أقاصيك
ونقول: (الروح)؛ لأن الديوان ينضح بصورٍ مديدة الإيقاع، وحين تصهل شهوة الوصل تأتي الصورة الحسية صوتاً ملتهباً في العمق؛ أي لانجد تعابير مباشرة عن التوق الجسدي، إنما ولوجٌ إلى عمق وجودها، وهذا يجعلنا نشعر في قولها: (تميد لك/ روحي/ حقل سوسن/ احصد بي/ عمقك/ امض في صهيلي) بحالة من الاحتياج (الروحي/ الجسدي) في الوقت ذاته، مع نقاءٍ كما الضوء، وفضة القمر، يشع في مرآة الذات.
     ونلحظ أن الشاعرة مهدت لقصائدها معظمها بنصوص قصيرة، وكأنها عتبات قبل النصوص الطويلة، فكانت أشبه بتوطئة للتجربة التي تليها، وفي الوقت ذاته لاتقل أهميتها في كونها نصوصٌ بذاتها، كقولها: (البذور/ تكثيف الذات في الكون)، (تعال نضحك/ ملء/ فم البراري).
    ولاتغيب المفارقات في عددٍ من النصوص، منها لفظية، كقولها: (حزينةٌ أنا بما يليق بفرحٍ/ يلهو في/ قصيدة)، وقولها بقلب عنوان الديوان من: (هذيان الفضة)، إلى (فضة الهذيان):
                   كيف أفتح مرآتي
                     على ألوانها؟
                      كيف ألون
                        شعري
                   بفضة الهذيان؟
      ومنها مفارقات موقفية تصورعمق المأساة الوجودية، فتتجسد مأساة الغفلة المطمئنة التي تسقط فيها الضحية، كقولها: (يمشي نهر النافذة/ في أوج العشب/ إلى المشنقة/ ولا يعرف أنه الضحية)، وقولها مصورةً لحظة الخذلان الوجودي: (لحظة/ الطيران/ تكتشف الأجنحة/ أنها/ نقشٌ على حجر).
     ويمتلئ الديوان بالإخبارات التي تقررها الشاعرة، لتقدم رؤيتها لمعطيات الوجود والعدم، مثل: (العشق/ أن يصبح العالم قابلاً للقراءة)، (الموت فضة الوحدة/ ماؤها الحزين)، والتساؤلات الاكتناهية من مثل: (وأنت تقطع ذاتك/ ما زمرة دمك؟/ أهي.. هي؟ / مساكن الفراغ أينها؟).
     ونجد أيضاً علاقة الشاعرة مع البحر، والصخر، والحجر، والمعادن...، علاقتها بذاتها، بالكون، بالشعر...، فترسم، وتنقش، وتستنطق، في علاقة جدلية بين الحياة والموت، والبحث والهرب، والقمة والهاوية...؛ لتكتب على أنقاض ذاتها، وعلى جناح الكلمة، والضباب؛ لتكتب على المرايا عمَّا بعد الكائنات، وأن (وراء هذيان الفضة كائنٌ/ يتكاثر بالانشطار)، وأنها ستستمر في الهذيان، ورسم فضةٍ تطير من جسدها، بل ربما نستطيع القول: تتشظى من روحها المتكاثرة في جسدٍ تحلِّق أشلاؤه في عمق المرآة، فهي مؤمنةٌ أن (الجنون يليق/ بالنص/ ينهل/ من أطراف هذياننا/ بما يليق/ بكتاب).
     وينتهي الديوان بلوحةٍ تقدمها إلى القارئ الممسوس بالريح حد الانفلات لتشركه معها في التجربة، فتبدأ الديوان بسِفْر الريح، وتنتهي به، وبسمكة تجاوزت وجودها البيولوجي، وعدلته لينسجم مع كينونتها، فركبت رأسها، وطارت من (البحر/ بيئة الشاعرة) إلى سماء الشعر/ الروح/ المعنى..
      

   

 

تعليق عبر الفيس بوك