مدرين المكتومية
لم أتصور أن تمتد يد أحدهم لتختلس مالاً هو ملك للشعب، إنِّها لجريمة كبرى، فالمرء قادر على أن يُسامح ويتنازل عن حقه لآخر تأذى منه أو سرق ماله، ولكن كيف لشعب كامل أن يغفر لواحد منهم امتدت يديه لمالهم العام فاختلس في خسة ونذالة.
الاختلاس في اللغة من مادة "خ ل س"، وتعني النظر إلى شيء من حين لآخر في خفية، وربما تكون هذه المفردة ذات معنى جميل في لغة الحب والعشاق، فهناك من يختلس النظر حتى ينظر إلى من يحب، فنقول "ينظر إليه خلسة"، وقد تكون تعبيرا عن نظرات إعجاب تخرج من ثنايا الأعين دون عمد أو قصد. لكن هناك معنى آخر يشير إلى سرقة المال العام، من قبل شخص ائتمنته مؤسسته أو وطنه أو شركته عليه، فعندما يختلس المال العام فهو يُمارس السرقة، وما أشد ألماً من سرقة الوطن، فسارقو الأوطان هم مدمروها، هم أشد فتكاً على أوطانهم من العدو الخارجي المتربص بنا.
ومنذ أيام باتت تفوح رائحة قضية اختلاس للمال العام في إحدى الجهات الحكومية، ما دفع النَّاس إلى التساؤل، وتحولت محادثات "واتساب" وتغريدات "تويتر" إلى ساحة نقاش مفتوحة، وسبلة عمانية يتداول فيها الناس آخر معلوماتهم حول هذه القضية، التي ذكرت مصادر أنَّها قيد التحقيق، وأن عددا من الموظفين موقوفين لحين احتمال ملف القضية. ثمة أمر غريب لم نعتد عليه في مُجتمعنا العماني، لن نقول إن صفات الخير تراجعت، بل إنَّ بعض النفوس ركعت للمال، فأصبحوا لا يرون سوى الأموال هدفاً وغاية بصرف النظر عمَّا وراء الهدف وكيف يمكن الوصول إليه. البعض باع ضميره مُقابل حفنة من المال فتخلوا عن مبادئهم، دون أن يُدركوا أنَّهم في الحقيقية يتخلون عن وطن بأكمله ويعتدون على حقوق أبنائهم قبل أبناء غيرهم. كيف لشخص أن يختلس مالاً أؤتمن عليه، رغم أنَّه منوط به حماية الوطن، والأشد وطأة أن تكون حماية الوطن هذه مُرتبطة بتقديم رسالة سامية مثل رسالة التعليم، هنا يعتصرنا الألم، فمن نأتمنه على مستقبل أولادنا هو أول من يُهدده بالضياع، فيستحلون المال العام ويأخذون حقوق النَّاس بغير وجه حق.
لست بصدد تقديم دروس في الوطنية لأي طرف، فالجميع يدرك جيدًا معنى الوطنية، لكن هناك من قرر ألا يطبقها في حياته، رافعاً شعار "نفسي أولاً"! لكني أؤمن بأنّ الوطن هو الحياة والاستقرار والتنمية والبناء، الوطن هو الرقعة التي لا يمكن لأي شخص منا أن يتنازل عنها في أحلك الظروف، لكن يبدو أن البعض قرر بالفعل أن ينسى أو لعله يتناسى ذلك. ألا يعلم هؤلاء أنَّ هذا الوطن هو الذي أطعمهم وأطعم أبناءهم وأسرهم، هذا الوطن هو من وفر لهم الحماية والعيش الكريم في وقت يبحث فيه آخرون عن أوطان لهم وسط أمواج البحر العاتية، أو بين الصحاري الشاسعة، أو على حدود الدول الأخرى؟! كم قدَّم الوطن لكم لتصلوا إلى ما وصلتم إليه؟ ولتعيشوا كما يعيش غيركم في وطن يخاف على أبنائه، ويصنع لهم حياة يتمناها الكثير من أبناء شعوب العالم الذين يعيشون في أوضاع عنوانها التشرد داخل أوطانهم والدمار في كل مكان، وما بلدان في منطقتنا ببعيدة عنّا. انظروا إلى الأوطان التي مزقتها الحروب والصراع على السلطة، ماذا حققوا؟ لا شيء!
عندما يكون الوطن هو الورقة الخاسرة في يد المواطن، فلا يُمكننا سوى القول "على الدنيا السلام".. لم أكن أتخيل أنَّي قد أعلم أن من أبناء وطني من يخونون الأمانة، ويتنازلون عن أدوارهم في خدمة الشعب، لكن الواقع أشد مرارة مما نأمل أو نتخيل.
أدرك حقيقة أنَّ قضايا الاختلاس وسرقة المال العام، موجودة في كل بلدان العالم، وهناك جهود دولية لمُحاربتها، والسلطنة من الدول المنضمة للعديد من الاتفاقيات التي تستهدف محاربة سرقة المال العام، فضلاً عن قوانينا الوطنية التي تضرب بيد من حديد على يد كل من تسول له نفسه المساس بمقدرات الشعب ومكتسبات نهضته.
إننا اليوم نعيش في عالم يموج بالمُتغيرات حول العالم، ودول تريد أن تدمر دولاً أخرى، وأنظمة لا تهوى سوى فكر المؤمرات والتدمير، وإذا لم نكن أمناء على وطننا وأن نحافظ على مكتسباتنا من مشاريع تنموية ونهضة شملت جميع مجالات الحياة، فإننا سنكون مُقبلين على تحديات كبرى، تستدعي من الجميع التيقظ الدائم والعمل على حماية الوطن من أنفسنا قبل الآخرين.