اختلاسات المال العام

حمود بن علي الطوقي

 

ذات طفولة بعيدة، كُنت في صحبة والدي- رحمه الله تعالى- وكنَّا نقطن في مدينة روي، حيث كان إماماً لجامع السُّلطان قابوس وكان عند ذهابه إلى المسجد لابد أن يتوقَّف عند إشارة المرور التي تمّ تجذيرها في الأرض، بالشارع المُقابل للمسجد يومها قال لي أبي: (هذه الإشارة تُحقق العدالة، تقف عند الأحمر، وتمشي بعد الأخضر، وإن خالفت ذلك تصبح قابلاً للعقوبة)، لأنّ الإشارة حققت بُعدها الرمزي، وصار النَّاس مُتفقين على أنّها تساوي بينهم، ولا تُفضّل أحداً على آخر.

استحضرتُ حديث والدي رحمه الله عن إشارة المرور وتحقيقها للعدالة وأنا أتابع التجاذب حول قضايا الفساد والاختلاسات التي طالت المال العام وهذه المرة في إحدى الوزارات التي من المفترض أن تقوم بدور التربية والتهذيب والتعليم وتقود قاطرة إعداد أجيال المستقبل.

التجاذب والغضب من قبل نشطاء منصات التواصل الاجتماعي عندما تناولوا قضية اختلاسات كان غضبهم شديدا مستنكرين هذه الآفة واستدلوا في مداخلاتهم بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي تدعو إلى الأمانة وإلى الإخلاص في العمل.

هذا الغضب والرفض من قبل المواطنين ونشطاء السوشيل ميديا امتد إلى مطالبتهم برفع نداءات إلى الجهات القضائية والرقابية لمحاسبة المفسدين وسحب كل المبالغ المختلسة مع تقديمهم للعدالة ومحاكمتهم ليكونوا عبرة لمن يعتبر.

الفساد آفة تنخر في عظم الأمم والشعوب، وتستهلك الطاقات الإنتاجية للأجيال، وتُعطي صورة غير صحيحة عن الشعوب والدول، لذلك وجب في محاربته إعطاء الإعلام صلاحياته الطبيعية، حتى يتواكب مع الواقع، ليفهم التحولات، وبالتالي نقلها بأمانة إلى الناس، فالصحافة سُلطة، والإعلام مرآة.. نُريد صوتنا منِّا وإلينا، من دون اتّكاء على ما لا نرغب فيه ولا نقبله، بل ولا يُمثلنا.

استحضرت وأنا أتابع هذه القضية خطاب حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المُعظم- حفظه الله ورعاه- عندما التقى بأعضاء مجلس عُمان قائلا: "إنَّ العمل الحكومي كما هو معلوم تكليف ومسؤولية، فيجب أداءه بعيدا عن المصالح الشخصية وتنفيذه بأمانة تامة خدمة للجميع. كما يجب سد كل الثغرات أمام أي طريق يمكن أن يتسرب منها فساد. وإننا نؤكد في هذا المقام على عدم السماح بأي شكل من أشكاله ونكلف حكومتنا باتخاذ كافة التدابير التي تحول دون حدوثه، وعلى الجهات الرقابية أن تقوم بواجبها في هذا الشأن بعزيمة لا تلين تحت مظلة القانون وبعيدا عن مجرد الظن والشبهات، فالعدالة لابد أن تأخذ مجراها وتكون هي هدفنا ومُبتغانا".

فإذا كان ولي الأمر ينبه ويحذر ويوضح أن هناك عقوبة لكل من تسول له نفسه خيانة الأمانة فأي ضمير لهؤلاء الذين وصلوا إلى مناصب قيادية في مؤسساتهم، ولماذا يتعمدون تشويه صورهم أمام المجتمع.

أستطيع أن أجزم أنهم يحصلون على كل الامتيازات ويستحوذون على كل شيء ورغم ذلك يفسدون في الأرض حتى "فاحت" رائحتهم وخرجت من جغرافيا المكان، فليس هذا ما سعى إليه المقام السامي طوال هذه العقود، في بناء دولة المؤسسات.

يقول المولى عزّ وجلّ في كتابه العزيز: " وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ".

وكوننا نعيش في زمن مُنفتح، فهذا معناه المواكبة، سواء كان على المستوى الفضائي أو التقني وصار لابد من تأكيد عملي على أن تكون الوظيفة الإعلامية المؤسسية والإستراتيجية مبنية على فكرة صون المقدّرات، وفتح باب النقاش حول ملفات مسكوت عنها، فالكل يُريد الخير لـعُمان، والكل يعمل من أجل تحقيق ذلك، وهذا لن يحصل من دون شفافية ووضوح.

أخيراً أقول أنَّ العمل عبادة وأن عُمان أمانة في رقابنا جميعًا فقد أراد جلالة السلطان- حفظه الله ورعاه- أن تكون لهذه البلاد نهضة قائمة على صلاح الإنسان وحب الخير وسد أبواب الفساد والتطلع إلى الصلاح والإصلاح.