صراي

 

 

أماني المسكرية

 

تستوي كل مُفردات الإنسانية الحسية والروحية. وتبكي مدامع ذاكرة الزمن عند  ذكر أطياف مسماه (صراي)

ذاك الشيخ الهميم الجليل المهيب المحيا. تستوقفني ذاكرتي حزناً وتسري دموعي ألمًا على نور روح غادرت أرواحنا قبل حارتنا. ما زلت أتساءل بعد كل هذه السنوات، أين يرحل أولئك الذين نُقدس طهر أرواحهم. خلقهم الله من نفس صافية. تخضع لهم الأرواح وتستكين بهم المعشر؟. إذا كانوا في دنياهم  لامسوا  شغاف  قلوبنا بحسن أخلاقهم! فكيف هي آخرتهم؟ كيف كانت قيامتهم الصغرى؟ كل ما أستطيع تخيله عنه. أنه في نعيم برزخي لايُمكن لعقل بشري أن يضع تصور جزء من  ثانية جنة روعته. وإذ أعود وراء لـ 20 سنة، كل صباح كنَّا نجلس عند برزة  باب جدتي الخشبي الذي تنتهي آخر درج منه بممر ترابي  منحدر على شارع ضيق  تتناثر على زواياه كثير من الحصوات مؤدياً إلى الدكان.. وكعادته يمر شيخنا المُلقب بمحمد صراي. وهو منحني الظهر يلتقط كل حجرة صغيرة كانت أو كبيرة من طريق المارة ويلقي التحية رافعًا يده إلى الجدة بركة. ويبتسم لنا ونركض نتزاحم عليه يمسح رؤوسنا، ونقبل يديه الكريمتين وعروقها الخضراء الواضحة كانت رمز هيبته وانحناءة ظهره كانت شموخا لا خلاقة. ويختم طريقه جالساً على برزة الدكان الوحيد بالحارة ينتظر كل من يريده في مسائل المشيخة ويعمل على كسب رزقه..

أبونا صراي. .. كان قليل الكلام  ودائم الابتسام ولم يكن يجلس في البيوت الكبيرة ولا المجالس الفخمة ولا التكايا الأنيقة. كان ظهره فخامته وعقله سراجه ولسانه خلقه ووجهه ونظرات عيونه نورا يجتاح قلوبنا بتواضعه وطيب أصله' قلبه سموح إلى أبعد الحدود. يعرف القريب ويتذكر المغادر والبعيد ويسمو بمشيخته قلب كل من يسأل حاجة من أمورها. ويترك لك ضميرك في تخير كل شيء. فلا ترى في محيا وجهه  ولا لحيته البيضاء الطويلة أي أرواح معادية ولا تزيفا ولا نفاقاً. تسأل عنه كل من في الحارة صغيرا وكبيرا أين الشيخ؟ الجواب واحد. تجده في المسجد ينتظر وقت الأذان ليؤذن أو عند برزة الدكان.. إنه عبق السلام وروح الوئام وولي الزمان. إنه دمعة تحبس أنفاسنا كلما تذكرنا أنه غادر إلى برزخ الطيبين تحمله ملائكة الرحمة  إلى منتهى الرحمة إلى جوار الراحم الرحيم.

اليوم كل صبيحة عيد عندما نزور حارتنا القديمة نازلين من السوق القديم متجهين إلى مدخل الحارة لا تجد ذاك المنظر البانوراما الذي يقابل نزولك رؤية الدكان وبرزة الشيخ صراي، والبيت الطيني القديم، صرحاً متكاملاً لعلم العطاء والمشيخة. حارتنا الآن موجودة ولكن وطن النهار... رحل؛ سراج وصراي الليل خفت.

عزيزي القارئ لطفا دقيقة صمت وأقرأ الفاتحة على خلق كريم محمد غادر.

 

 

خاتمة المندوس: "الذين نحبهم لا نودعهم. ﻷننا في الحقيقة لا نفارقهم، لقد خلق الوداع للغرباء وليس للمحبة. كتاب "ذاكرة الجسد"، أحلام مستغانمي.

 

تعليق عبر الفيس بوك