من الذي قتل مهاجري نيوزلندا؟!

 

مسعود الحمداني

 

أتوا من كل بلاد العرب والمسلمين ليجدوا فسحة لهم في "بلاد الكفر"، هاجروا بقضّهم وقضيضهم ولجأوا إلى بلادٍ غريبةِ الوجهِ واليد واللسان، أخذوا ما خف حمْله وغلا ثمنه وجاءوا بحثا عن ملاذٍ آمنٍ في حضن الحضارة التي سمعوا عنها ولم يعرفوها، طُردوا من بلادهم، وهاجروا إلى ديارٍ لا أمان لها، وساحوا في الأرض حتى غاصت بهم المراكب، وغصّت بهم البحار.

سحقتهم أنظمةٌ مستبدة، وعصرتهم أزمنةٌ فجة، وقاتلتهم جماعات لا دين لها، وأخرجتهم من أوطانهم إلى أصقاع الأرض باسم الإسلام، وسمعوا كثيرا لذلك الشيخ، ولُعنوا كثيرا من شيخ آخر، ولكنهم عثروا على الإيمان في قلوبهم، وتعثروا بصخور التكفير والتشكيك والبلاهة، ذهبوا إلى بلاد ظنوا أنّها آمنة فإذا هي خليط من أجناس وأعراق لا يرحبّون بالغرباء، ولا يرغبون في رؤية من يشاركهم أرضهم، رغم أنّ هؤلاء (البيض) هم أصلا سكان غير أصليين لأرضٍ لم يكونوا يملكونها، أباد أجدادهم شعوبا مستقرة ليقيموا حضارتهم على جماجم أهل المكان، وبمرور الزمن ادّعوا أنّ الأرض هبة لهم من الله!

مسلمون حملوا زوّادة أحلامهم، ومشوا في متاهات بعيدة، وغابات سحيقة، يطاردهم الفقر، ويحثهم الجوع، وتطاردهم أنظمة متخلفة، لا يملكون إلا الأمل، والتعلّق بشعارات الإنسانية والحرية والمساواة التي ترفعها الدول المتقدمة، ولا يؤمن بها المتطرفون الذين تربّوا على أخذ ما في يد الغير، ولم يعتادوا العطاء للآخرين، والذين كانوا في انتظارهم، يتربصون بهم الدوائر، ويخططون لإخراجهم من "جناتهم"، ونسجوا حولهم خيوط الكراهية التي تربّوا عليها، وبدأوا في مضايقة كل مهاجر لا يحمل سحنتهم، ولا يتكلم بلسانهم، وكثيرا ما سمعنا عن مضايقات وهجمات وحرائق قام بها متطرفون- في أوربا والولايات المتحدة- ليخيفوا بها اللاجئين والمهاجرين العرب والمسلمين، حتى تمنى كثير من هؤلاء المغلوب على أمرهم أن يعودوا أدراجهم إلى نار أوطانهم، بدلا من جنةِ بلدانٍ لا قيمة للإنسان فيها إلا بحسابات الرأسمالية المادية عديمة الرحمة.

تسع وأربعون روحا بريئة ذهبت إلى بارئها في ليلة واحدة، في نيوزلندا الدولة الآمنة المطمئنة التي لم تعتد على مثل هذه الجرائم البشعة ولكنّها أخرجت إلى العلن وحوشا رابضة، وخلايا يمينية نائمة تنتظر الفرصة لتنقض على كل المبادئ الإنسانية، ولتشوّه الوجه الجميل لقارة أستراليا بالكامل، ولتجعل اللاجئين والمهاجرين هناك في وضع لا يحسدون عليه، جريمة اهتزت لها أفئدة العالم، ونددت بها، ولكنها لن تستطيع محو آثارها من على جبين النساء والأطفال والشيوخ الذين صُدموا بها، وعاشوها، وتحسّروا فيها على حالهم.

تساءلتُ في تلك الليلة المشؤومة: "من الذي قتل هؤلاء فعلا؟! أهم مجموعة يمينية شعوبية متطرفة؟ أم أن الفاعل الحقيقي هي أنظمة متخلفة لم تفعل ما يجب عليها فعله لمنع التطرف الفكري والديني في بلادها، ولم تقم بواجبها تجاه شعوبها لمحاربة الفقر والجهل والتخلّف ولجعل مواطنيها أكثر أمنا واستقرارًا ورفاهية؟" أنظمة استماتت في الدفاع عن مكتسباتها، وكراسيّها، ونامت عن حقوق شعوبها حتى بات كثير من العرب والمسلمين بين قدرين: إمّا مهاجر فعليّ يتأرجح بين ناريّ الغربة والعودة.. وإمّا مهاجر مؤجَلٌ إلى حين.. وكلاهما خاسران.

رحم الله من قضوا نحبهم في تلك الجمعة الحزينة، وتغمدهم بواسع مغفرته.

Samawat2004@live.com