كاڤگا - ( الحُكم ) - الحداثة الكلاسيكية


يحيى السداوي | العراق
قصة أراد من خلالها أن يلفت فكر القارئ إلى نفسه ومجتمعه حينما أهداها إلى حبيبته (فيليس باور) برسالة وقرأها في عدة مناسبات ونشرها في مابعد ثلاث مرات (1913/ 1916/ 1920) يروم حُكم القارئ على مسيرة النموذج الإنساني التجريبي آن ذاك وهو يرى جموع العابرين على جسر (كارل) من نافذة غرفته المطلة على نهر (مولداو) في مدينته (براغ) في الچيك. وقد بعث برسالة إلى ناشره فيما بعد (ماكس برود) في بدايتها (تهمني الحُكم بشكل خاص، وإن كانت قصيرة… ..) إذ يناقش فيها مجموعة مواضيع على اختلاف أهميتها بالنسبة إلينا وأهمها، طبيعة المجتمع والأب والأبن والصديق، الذات والالهام والحس، الفهم والإدراك والمعرفة، الحب والقلق والمنطق في الأسلوب والكتابة والخطاب الشعري الذي كان يشعر به مُملا ولا يمثل أدبا حقيقيا فانفجرت منه هذه الرائعة الأولى في العام 1912 شهر أيلول ليلة 22 من الساعة العاشرة ليلاً حتى الساعة السادسة صباحاً بدون توقف حَكم فيها على قارئهِ أن يدخل ضمن قصته (الحُكم) إلى مالا نهاية في الحداثة والتجديد(1).
تتسم الحداثة الكلاسيكية عند كاڤگا، بوجود الأساس البنيوي المستقى من الواقع الإنساني، في تجربته الشخصية ذي الرمز الكلاسيكي، من منطلقه في جبر الإنسان بحيواته المتعددة، الدينية والجنسية والإقتصادية بتركيزه في مسألتي، الاندثار عن طريق إخراج الأب من وظائفه كافة عبر الزمن، وصولاً إلى العجز من خلال شيخوخته وقعوده في البيت وكفه عن الحياة من دون الإطاحة أو نفي الطابع الكلاسيكي من ذكر أسماء للشخصيات أو المكان، وهذا ما يستوجبه عصره وما بعده لإيصال الفكرة الرئيسية لفلسفته واعتقاده وتفكيره في مسألة الوجود وعودة الفعل المركزي والعامل والمؤثر في المجتمع، من خلال الابن في أنه لم يهدم بناءه للبطل وجعل الأمر غير سائباً فيه احتمالين فقط، إما أن يموت البطل الابن عند سقوطه من الجسر أو سيعيش قدراً ويكمل حياته بعد خروجه من النهر ليجعلنا نلتفت إلى القدرية في الأفعال والحوادث (2) وقد كان (الحكم) قبل اللانهاية الغرق (أحكم عليك أن تموت غرقاً)، فقد جعل من عدم غرق الابن وسقوطه من الجسر فسحة لرجوع الابن للحياة من جديد وعدم الجزم والحتمية في موت البطل، مما يدخلنا إلى عالم غيب مستقبلي من خلال التفكير في خاتمة بطله ومستقبله الحداثوي أو الحدثي فيما بعد.
إن الجانب النرجسي عند الابن جعله أكثر انعزالاً من العائلة بحيث تعمق هذا المشكل النفسي من حب الذات الأناوية في داخله حتى احتل مكان أبيه في العمل وفي البيت وفي العلاقات وغيرها، ومن المهم هنا أن نعرف أنه أخفى خبر خطبته عن صديقه المهاجر قبيل موعد الزفاف بفترة وجيزه، كما أخفى أنه يعمل ويكتسب المال بشكل جيد حيث كان يخفي عن صديقه كل أموره وأحواله الشخصية وذلك خوفاً من أن يحسده، فتحول بهذا إلى وحش يحب نفسه وفقط. وحينما أصبح الترابط ضعيفاً بين أفراد العائلة وأصبحت الزوجة ذكرى تعيش في الأب وتساوره بالحنين والصديق هاجر بسبب الضائقة المالية لكسب العيش، والابن كان مهووساً بصفقاته التجارية وما اجترأه واقترفه من أخطاء بنظر أبيه المقعد، نصَّب الأب نفسه حاكماً مطلقاً على ابنه للتصدي لنرجسية الابن المتعالية وكسر قيود الصمت، والانفتاح إلى عالم إطلاق الأحكام والتصريح بأن الإنسان النرجسي كائن شيطاني بقوله (إنك كنت إنساناً شيطاناً).
قد أعانت هذه النظرة للحكم، على استشفاف وبيان مدى الاستبداد من قبل الأب في حياته أو وجوده في العائلة التي هي نواة المجتمع، وتصرفاته الدكتاتورية تجاه الأفراد بدرجاتهم كافة القربية والبعيدة منه على (الدوغمائية) في التعامل وهو مايتسم به الأب (3)، وبروزه بوضوح إذ تفرد برأيه لوحده ولم يشرك رأي الآخرين كالصديق والحبيبة أثناء إصدار (الحكم)، وهذا بسبب خلو المحيط من أفراد آخرين يكون مستواهم القيادي وتأثيرهم في العائلة كتأثيره، فضلاً عن خلو العائلة في قصة الحكم من الزوجة لأنها ميتة والصديق لأنه مهاجر والحبيبة البعيدة التي لم تدخل العائلة بعد، مما يعطي جوًّا فردانيا رهيبا للقيام بدور الحاكم المتسلط الدكتاتوري في العائلة.
اتسم هذا الحاكم بقوته العقلية والجسمية رغم كبر سنه بأدائه بعض الحركات المخيفة أمام ولده ليشعره بذلك القديم المتسلط عليه مهما كبر وأنه ستبقى سلطة الأب، هي السائدة في الحياة مهما حاول الابن أن يأخذ مكان أبيه أو يتصرف دون الرجوع إليه في المشورة والافتاء، بكافة ميادين الحياة من دون اختيار ولا قناعة من الابن، ونتيجتها سلب الإرادة من الابن والإنسلاخ من الذات الفاعلة في المجتمع إلى أداة بيد الأب يحركه كيفما يشاء، فتحول بهذا الشكل الأناني والنرجسي، ثم أعطتهُ صدمة قرار الحكم الطيش في التصرف وانهار (جيورج) (4) أمام تصريحات أبيه القاسية وهذا ما جعل القدر يتحكم به في خاتمة القصة المفتوحة، وتبريره أراد الكاتب عرض عدة قضايا إشكالية فلسفية تلعب دورًا هامًا وكبيرًا باستفحال العقد النفسية في المجتمع، دون تقديم الحل في نهاية القصة فهو يدفع المتبحر فيها لإيجاد الحل بشكل مزدوج ممزوج من الكلاسيكية والحداثوية بالإسلوب والطرح المفتوحين في نهايتها.
....................................
الهوامش:
(1) فرانز كاڤگا. الآثار الكاملة. دار الحصاد. سوريا. الجزء الاول. ترجمة إبراهيم وطفي لسنة 2003. صفحة41. صفحة 45.
(2) نفس المصدر السابق صفحة51. صفحة 96.
(3) الأنا والهو. فرويد. الطبعة الرابعة 1982 بيروت دار الشروق. صفحة 59. (إن الأنا بقيامه دائماً يمثل سلطة الوالدين ..........)
(4) الموجز في التحليل النفسي. فرويد. عقدة أوديب صفحة 132. مصر لسنة 2000 مكتبة الأسرة.

 

تعليق عبر الفيس بوك