عبيدلي العبيدلي
في إطار فعاليات "ربيع البحرين الثقافي"، استضاف مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث، الكاتب الصحفي اللبناني جهاد الزين، في محاضرة حملت عنوان "بعض تحولات الثقافة السياسية العربية". ورغم الطابع الشمولي للعنوان، لكن الزين فضل التركيز على تلك التحولات التي شهدها الإسلام السياسي، وعلى وجه التحديد في الفترة المعاصرة.
ركّز الزين، على ثلاث قضايا مركزية حرص على العودة لكل منها في أكثر من مكان في ذلك اللقاء. الأولى منها هي الأزمة البنيوية الخانقة التي تعصف بذهنية سلوك وتصرفات الإسلام السياسي. أما الثانية فهي أنّ انتشال الإسلام السياسي من هذه الأزمة لن يتم كي يرى النور من رحم الحركة الإسلامية السياسية في المنطقة العربية، وإنّما، إن قدر أن يكون لها من منقذ، فهو آت من مسلمي الغرب، والجاليات الإسلامية التي تقطن هناك. أمّا الثالثة والأخيرة فهي خيبة الأمل التي يعاني منها الزين من انتكاسة "التنوير السياسسي" الذي كان يمكن أن تعرفه الحركة الإسلامية المعاصرة على يد جناحها التركي، الذي فشل هو الآخر، كما يؤكد الكاتب، في تجاوز تلك الأزمة، والتمرد على قضبان سجنها.
نجح الزين في تشخيص أزمات الإسلام السياسي المعاصر في أكثر من محطة من محطات رحلته في ذلك اللقاء، معززا ما ذهب إليه من استنتاجات بمواقف وأحداث رسختها رحلته المهنية كصحفي والتي تمتد لما يربو على نصف قرن من المعاناة والآلام. ولخص ذلك في استنتاج يكتسب موقعا في غاية الأهمية في تناول مسيرة الإسلام السياسي المعاصرة، وهي أن الأزمة، شاملة وطاحنة، شاملة بمعنى أنّها لم تستثنِ فئة دون أخرى، أو مذهب دون سواه، والثانية أنّها بنيوية، بحاجة إلى عملية جراحية تعيد هندسة البناء الفكري للإسلام السياسي، إن هو أراد الخروج من تلك الأزمة الخانقة. ولعل في ذلك الطرح، رسالة مبطنة لمن يعلقون الأوهام على مذهب دون آخر، ويميّزون، بشكل عشوائي، غير علمي، وغير منطقي، بين إسلام ثوري، وآخر غير ثوري من وجهة نظر هؤلاء الواهمين.
أمّا في تعليق آماله على الجاليات المسلمة في الغرب، فمرده، كما كرر الكاتب، يعود إلى عامل أساسي هو ذلك الهامش الواسع من الحرية الفكرية، والديمقراطية السياسية، التي تفسح في المجال، أمام مسلمي الغرب، وتحجب عن المسلمين العرب، القدرة على استخدام مبضع الجراح الناجح القادر على استئصال المرض، وليس الوقوع في أسر اللهاث وراء الأعراض. وفي هذا الصدد، يعرج الزين على أمثلة من المنطقتين العربية والغربية كي يعزز ما ذهب إليه من الفسحة الواسعة التي ينعم بها ذهن المسلم الغربي، وقضبان الزنزانة الضيقة التي تحجب الرؤية عن نظيره العربي.
على أرضية هذه الفرضية يورد الزين مجموعة من الأمثلة التي التقطها من قراءته المتواصلة للصحف في المنطقتين: العربية والغربية على حد سواء، منوها إلى عدم انبهاره بما يرد في الثانية، وعدم ازدرائه لما تحفل به صفحات الأولى.
أمّا على صعيد التجربة التركية، فأشار إلى أنّه كان يرصد بصيص أمل في نهاية النفق المظلم، لكنه خبا مع الإجراءات الأخيرة التي رافقت مسيرة الحكم التركي، والتي تركت بصماتها السلبية على الكثير من الأقلام الصحفية المُستنيرة على الهروب خارج البلاد، باستثناء تلك الأقلام التي لم يحالفها الحظ، كونها رهن الاعتقال.
أثارت تلك المداخل التي ولجها الزين في تناوله لأزمة الإسلام السياسي المعاصر مجموعة من التساؤلات المشروعة التي يمكن رصدها على النحو التالي:
- هل الأزمة التي أسهب الزين في تسليط الأضواء عليها، وكان محقا في ذلك، محصورة في الإسلام السياسي أم هي شاملة وتعاني منها الحركة السياسية العربية بكل تلاوينها القومية منها والشيوعية؟ لقد تخلى القوميون عن طموحاتهم القومية لحظة استلقائهم على كراسي السلطة. وشهد تاريخ العرب المعاصر حروبا دامية طاحنة بين أقطار عربية يحكمها حزب قومي واحد، تسير دفة قراراته قيادة قومية واحدة. ولا ينجو من ذلك سلوك الأحزاب الشيوعية، بما فيها أحزاب فصائل اليسار العربي الجديد التي تناسلت من أرحامها. جميعها، وليس الإسلام السياسي وحده، دون أن يعني ذلك دفاعًا عن الإسلام السياسي، سقطت في دوامة الأزمة الفكرية السياسية، الأمر الذي يعني منطقيا أنّ الأزمة شاملة بالمعنى الكياني العربي، ولا تستثني أحدا.
- لماذا اكتفى الزين بتشخيص الأزمة، حتى وإن حصرها، وهذا من حقه، في الإسلام السياسي؟ لقد تعطش الحاضرون إلى سماع، ولو في شكل إشارات سريعة مقتضبة، تكون بمثابة عناوين بارزة، تضيء طريق من يحاول أن يفهم الأسباب التي قادت إلى هذه الانتكاسة الفكرية السياسية العربية، وولدت ظواهر "داعشية"، ليس في الحواضن السياسية الإسلامية فحسب، وإنما في تلك القومية والشيوعية على حد سواء. والتاريخ العربي المعاصر مليء بما نذهب له من عدم اقتصار الأزمة على الإسلام السياسي. ثم إنّ الأزمة لا تقتصر على الشق السياسي، بل تتعداها كي تصل إلى الفلسفي والاقتصادي، بل وحتى الاجتماعي.
- ما هو السبب الحقيقي الذي يكمن وراء انتكاس حركات التنوير، بما فيها تلك التي تستد جذورها لخلفيات دينية، وعلى وجه الخصوص الإسلامية منها؟ لماذا توقفت اجتهادات مفكرين تنويريين مثل طه حسين، ورفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وشكيب أرسلان، وحلت مكانها دعوات أخرى نسفت ما حققته الأولى، وأحلت مكانها أخرى أدت إلى ما أدت إليه من انتكاسة للفكر السياسي العربي التي نشهدها اليوم، وتناولها الزين؟
يشعر الحاضر في ذلك اللقاء، أنّ هناك ما يشبه الماء في فم الزين، يمنعه من قول كل ما كان يريد قوله، فيبدو وكأنّه كلما اقترب من الإفصاح عن فكرة جريئة تلح عليه، ينجح في كتمانها، ثم ابتلاعها. لم يكن ذلك أكثر من شعور تولد في ذهن ذلك الحاضر، لكنه يتحول إلى حقيقه عندما يعود ذلك الشخص إلى آخر فقرة يختم بها جهاد الزين كتابه الموسوم "المهنة الآثمة: نقد تجربتي في الكتابة السياسية"، التي يقول فيها، "سوق المحرمات غني وشاسع في العالم. وكلما اتسعت العلنية اتسع التحريم، بعكس السائد أنّ عالمنا ضْيق رقعة التحريم. الصحيح أنّه في الواقع وسع رقعة اللامحرم، ولكنّه لم يضيّق رقعة التحريم، لأنّ من إدهاشات العلنية أو السعي للعلنية التي جاءت بها الثقافة الديمقراطية الغربية أنّ كل إلغاء لمحرم، أو كل حرية جديدة، يفتح معه آلاف المحرمات الجديدة، بسبب غنى الحياة والثقافة الإنسانيتين، كأنّ المحرمات وقائع تتوالد من وقائع، أفكار تتوالد من أفكار...".
لقد أضاءت قناديل محاضرة "عرس الزين" فضاء "ربيع الثقافة" البحريني، فكان اللقاء زواجا حقيقيا بين كاتب عربي أصيل، ومناسبة بحرينية خلاقة.